بعدما أنهيت ما بين يدي من أعمال بدأت بطرق باب أفكاري للكتابة، ومع تداخل الخيال والمفردات، خفت ألا أميل لشيء منها لأكتب فيه، فأنا أبحث في الوقع الملموس عن الفكرة وأكثر التركيز في أبسط الأحداث، التي تحصل خلال اليوم، ومنها أتذكر أن قاطع صوت بكاء وصراخ حبل أفكاري! ذهبت على عجالة لأطمئن بحكم عملي، وإذا بطفلة تركض هاربة من غرفة التطعيمات، أدركت أنها قصتنا المعتادة من مغامرات ممرضة التطعيم مع أطفال المدارس، أضحكني منظرها الهارب ورق قلبي لها بسبب خوفها، الذي أعرف أنه ليس بالحجم الذي تعتقده، ذهبت وأشرت إليها حتى ألفت انتباهها ولما نظرت إليّ ابتسمت لها، كانت لطيفة بعينيها الدامعتين، سألتها بحزم (ليه تبكين؟) أردت أن أنافس خوفها بصوتي الحازم لأشتت تركيزها عما ينتظرها، أجابتني والدتها بأنها تخشى التطعيم وبنفس الوقت تحب المدرسة، التفت إلى الطفلة وقلت لها إنني انتظرها في مكتبي بعد أن تنتهي الآن وبسرعة لأن لها مفاجأة، تبدد منظر القلق عن وجهها ولمحت في عينيها نظرة الاستفهام عما ينتظرها! استأذنت والدتها وغادرت، بعد ما يقارب العشر دقائق جاءت إليّ واستضفتها وتعرفت على اسمها وتبادلنا وعدا صغيرا بأن تكون ناجحة ومتفوقة، ثم قدمت لها كمية بسيطة من الحلويات كمكافأة على تعاونها! أشرقت كأنها الشمس وأضاءت ابتسامتها الجميلة مكتبي ونسيت الألم الذي أبكاها، جمعتها بين كفيها الصغيرين وأخذتها إلى والدتها لتريها إياها، ثم عادت إليّ وقالت لي بالحرف الواحد (الله يدخلك الجنة) ونظرت إلى والدتها ثم قالت (يا ماما خلينا نجي عند خالة كل يوم)، كم لمست عباراتها التلقائية قلبي! ولم تكن الأم أقل من ابنتها في اللطف، فقد كللتني بالدعاء العميق الذي سرني، لعل الله سبحانه أرسلها إليّ حتى تهديني هذا الدعاء، الذي صدر بصدق ومحبة من شخص قد يكون أقرب إلى الله مني ومستجاب الدعوة، لذلك كان هذا اليوم مفرحا ومتفائلا، أعتقد أن الإحسان الذي يستعبد الإنسان مشهد قد تمثل أمامي في لحظات، الإحسان الذي تبذل فيه جميع المنافع، التي تستطيعها مِن أي نوعٍ كان، لأي مخلوق يكون، ويتفاوت بتفاوت المحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان وعظم موقعه، وعظيم نفعه وبحسب إيمانك أنت الخاص بقيمة إحسانك، والسَّبب الذي دعاك إليه، يقول ابن القيم: (فإنَّ الإحْسَان يفرح القلب ويشرح الصَّدر ويجلب النِّعم ويدفع النِّقم، وتركه يوجب الضَّيم والضِّيق، ويمنع وصول النِّعم إليه، فالجبن: ترك الإحْسَان بالبدن، والبخل: ترك الإحْسَان بالمال). إحسانك في عملك وفي تعاملك مع زملائك بأن تجتنب جميع مكروهات الفعل والقول الذي يؤدي للبغضاء وشحن جو العمل بالمشاعر السلبية والإحباط، كذلك إحسانك مع مَن وضعك الله لخدمتهم وقضاء حوائجهم، بشاشة اللقاء، تواضع الحوار، اختيار نبرة الصوت المناسبة، استيعاب المشكلة لحلها إن وجدت والتوجيه السليم من غير تشتيت وإضاعة وقتك ووقت المستفيد على كل حال، واضعا نصب عينيك أن المُحسن بجلالته هو مَن سيكافئك، يقول الإمام القرطبي: (إنه تعالى يحب مَن خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى إن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك). ومتى ما كنت تتخلق بالفضائل العُلى فأنت تزيد في قيمتك ومعرفة مميزاتك؛ لأن النتيجة الحتمية لهذه المعرفة هي بلوغ الأمنيات ونيل المطالب، وهذا هو نجاحك الحقيقي الذي يبدأ من داخلك.@Nadia_Al_Otaibi
مشاركة :