ليس المكان جمادا عندما يتحول إلى طيف من الذكريات والحكايات. وليس جمادا عندما يغدو في تفاصيله حدثا يوميا يعيش الشخص معه أحلاما وآمالا متجددة. وفي شارع شامبليون وسط القاهرة كان للكاتبة ناهد صلاح انزياح نحو ماض جميل عاشته وأحبت الرجوع إليه، فكتبته في نص نثري ضمن كتابها، لكنه ما لبث أن تحول إلى فيلم سينمائي وثائقي قصير. تتماهى على تخوم مدينة القاهرة حدود الزمان والمكان وتتلاشى الفوارق بين الحقيقي والخيالي، فالتاريخ يسكن هنا ويسجل صفحات من الأحداث. في القاهرة يختلف الناس ويتآلفون، ليكونوا في النهاية صوت القاهرة. ووسط مدينة القاهرة يحفل شارع شامبليون بأسماء وأحداث وأماكن وشخوص شكلوا عبر سنوات طويلة وجدان مدينة وشعب، إنه شارع كامن في وجدان أهل القاهرة كأحد أهم شرايين حياتها. يحمل الشارع اسم عالم الآثار واللغات القديمة شامبليون الذي فك رموز حجر الرشيد وكشف طورا من تاريخ مصر القديمة. شارع شامبليون صورة مصغرة عن الحياة، فيه وافدون على مصر من جنسيات مختلفة، وجدوا فيه المقام والأمان، فعاشوا في مجتمع مصري يحتوي كل غريب بحب. ويتقاطع الشارع ويتوازى مع العديد من الأحياء والشوارع القاهرية ليكتب معها تاريخ شعب عريق. وهو ما يبينه فيلم “شارع شامبليون.. تأملات مدينية” الذي أنجزه مبدعون مصريون، وكان مشاركا خلال شهر يونيو الجاري في مهرجان فيلادلفيا للفيلم المستقل في أميركا، ليتم تقديم عرض عالمي له، كما سيكون قريبا في مهرجان فاس في المملكة المغربية. الفيلم يضم مجموعة من الفنانين الشغوفين بالسينما، المؤمنين بأنها فن حي يمكنهم ترك بصمتهم فيه دومينو ناهد صلاح تدخل صبية شارع شامبليون لتعمل في أحد مكاتبه الصّحفية، ولا تلبث أن تصبح جزءا منه وحكاية من مروياته، وبعد سنين يفرض التغير سطوته، فيكون للحنين مكان في الروح، هكذا نبدأ حكاية الكاتبة والناقدة السينمائية ناهد صلاح مع المكان، وقد ضمنت صلاح كتابها “دومينو” مجموعة من القصص القصيرة، من بينها قصة حملت اسم “شارع شامبليون”، روت فيها البعض من حكايتها في الشارع وعنه. وتبدو ناهد صلاح شغوفة بالأماكن وناسها، تترصد لحظات حياتية عميقة لتجعلها نبضا في حروف كلماتها فيما تكتب. فصاحبة كتب “الفتوة في السينما المصرية” و”الفلاحة المصرية في السينما المصرية” و”عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة” و”الحتة الناقصة”، تولي المكان ومن يسكنه اهتماما خاصا. وشارع شامبليون دخلته ناهد صلاح كاتبة ثم صارت بسببه بطلة سينمائية في فيلم وثائقي تجريبي حمل الاسم ذاته، وأثارت جدلا إبداعيا في ثلاثة ظهورات لها؛ شاهدة على الحكاية أولا، وكاتبة لها ثانيا، ثم راوية وحاضرة في فيلم يقدمها ثالثا. وتقول ناهد صلاح عن ذلك لـ”العرب”، “التماهي كان حاضرا، فأنا شاهدة ثم كاتبة ثم راوية في الفيلم الذي يعبر عن حالة دومينو، وخصوصا في نص ‘شارع شامبليون’. عندي شغف بالأمكنة وانشغال بتوثيقها، ويهمني الحجر والبشر وتوثيق حالات الناس فيها. واضح في نص ‘شارع شامبليون’ أنني حكيت فيه بشكل شخصي عن عالم يخصني، كوني أعمل في صحيفة تقع فيه، وأنا أتعامل معه يوميا وأزوره شهريا عشرات المرات. هو شريان رئيسي في القاهرة، وما كان لدي هو تجربة شخصية فيه، فأنا دخلته مذ كنت صبية صغيرة كما جاء في النص الذي يقول: يا دنيا دوري دوري، دوري بينا، وكبرت وتركت لفاتها أثرا على الحوائط وبلاط الأرصفة المتكسرة في وسط البلد، وحينما تمر الآن تناديها الأمكنة قبل البشر ويكاد أن ينطق الحجر”. وعن حميمية العلاقة بينها وبين شارع شامبليون وكيف تكونت عوالم الخلق الإبداعية لديها حتى كان الكتاب ومن ثم الفيلم تقول “الشارع بما فيه من خصوصية يعبر عن حالتي الشخصية، التي دخلت فيها بدافع إبداعي أولا، ولكن الدافع العاطفي كان الأهم. كان لدي مس من الحنين إلى الماضي. لست أنا من اخترت أن أكتب عنه، بل هو من اختارني، التماهي كان كبيرا بيننا”. وتضيف “أنا في شامبليون في حضرة الذكرى والواقع الذي أعيش فيه، الحالة بكل عنفوانها فرضت نفسها علي، وجعلت روحي متلهفة لكي أترك الحيرة والعذابات القديمة وأبدأ العمل بالكتابة محاولة صناعة أسطورة عن شارع شامبليون، لأنه بالفعل أسطورة، هنالك خيط يربطني مع الماضي والتواصل مع الحاضر في هذا الشارع، هنالك تداخل بين الزمان والمكان وبين الحقيقي والوهمي، ومن خلال ذلك كله تخلقت الحكاية واكتملت دورة الحياة، وكأن روحي تتحدث أنني ما زلت هنا. في المجموعة لم أنوِ أن أعود إلى الوراء بل قصدت استرجاع شيء من الماضي ربما على شكل ونس لأعرف شخصيتي أكثر”. وتتابع صلاح عن ذكرياتها في شارع شامبليون “كما عادة القاهرة القديمة، وفد إلى الشارع بعض الناس من جنسيات غير عربية، وأقاموا فيه بأمان، ولوحات المحلات والمكاتب فيه تؤكد أن أحفاد هؤلاء ما زالوا موجودين، لوحات كتبت بالإنجليزية والفرنسية واليونانية المعدلة، ما زلت أشاهد الشقيقتين اليونانيتين يوميا وهما تتحدثان العربية المصرية المكسرة مع البواب، وهنالك قصر حفيد محمد علي المهجور، والكثير من العمارات والأبنية التي شاخت وبهتت، واجتاحتها حالة الإهمال والرداءة في الجمال التي آمل ألا تستمر، في الشارع ذكريات مع مكتب السينمائي الكبير يوسف شاهين الذي حضر إليه كبار نجوم الفن السينمائي؛ محمود المليجي وعمر الشريف ونور الشريف. وهنالك مكتب السينمائي الكبير رضوان الكاشف وسينما الزاوية التي كنا نشاهد فيها سينما العالم غير الأميركية”. شارع شامبليون دخلته ناهد صلاح كاتبة ثم صارت بفضله بطلة سينمائية نص وفيلم تحدثنا ناهد صلاح عن كيفية تحويل النص النثري إلى فيلم وثائقي قائلة “عندما صدرت مجموعة دومينو تحمس المخرج دويدار الطاهر لتحويلها إلى فيلم سينمائي وثائقي قصير. وبدأنا العمل على ذلك، لكنه توفي بعد فترة قصيرة، وبسبب الوضع في مصر والتغيرات العميقة التي كانت موجودة أجلت الفكرة قليلا، إلى أن جاءت المخرجة الدؤوبة أسماء إبراهيم التي تعمل في التلفزيون ولديها أفلام قصيرة سابقة وكانت مقربة من المخرج الراحل. فطرحت فكرة متابعة العمل في الفيلم ومشاركتي فيه بالحضور على الشاشة، واتفقنا بسبب شح الظروف الإنتاجية على أن نقدم العمل تطوعا، فلم يطلب أحد أي مال لقاء هذا الفيلم الذي أنجزته مجموعة من الفنانين المبدعين الشغوفين بفن السينما وهم يؤمنون بأن السينما فن مقتدر وحي ويريدون من خلاله ترك بصمتهم فيه”. وعن قيمة السينما في حياتها تتابع “الحياة حلوة في السينما، من خلالها فهمنا الحياة وأصبحت لدينا مساحات لتبادل الأفكار والتجارب، فيها كبرنا وهذا ما ظهر في النص والفيلم. السينما هي جزء أساسي في حياتي، أتممت الشهرين من عمري بمدينة الزقازيق عندما حضرت أول فيلم مع أهلي، وبكيت طبعا وخرج أهلي من العرض بسببي. كانت السينما رافدا أساسيا لي؛ من خلالها تابعت النتاج السينمائي المصري تحديدا. وأول مقال نقدي قرأته كان عن فيلم ‘الجوع’ لعلي بدرخان وكتبه علي أبوشادي، وكنت طالبة صغيرة تعلق قلبي بالسينما وفهمت أنها إحدى وسائل النضال الثقافي والاجتماعي”. ويبدو حضور الأنثى في الفيلم واضحا؛ فكاتبة النص والراوية فيه ناهد صلاح والمخرجة أسماء إبراهيم، كما ساهمت بشكل فعال المترجمة إلى الإنجليزية بسمة رضوان والمترجمة إلى الفرنسية أريج جمال والفنانة سعاد عبدالرسول في تصوير معرضها حديقة افتراضية في أحداث الفيلم، وقدمت سلوى محمد علي الأداء الصوتي والرسومات كانت لشيماء إبراهيم، كذلك ساهمت عزة كامل زوجة المخرج الراحل رضوان الكاشف في تقديم ما يمكن من مساعدة على التصوير في مكتبه. وإضافة إلى هؤلاء ساهم في تقديم الفيلم مدير التصوير عبدالرحمن محمد، أما الموسيقى فهي لعلي كمادجو والمونتاج لعمر بدرالدين. ويذكر أن ناهد صلاح كاتبة من مصر قدمت العديد من المشاركات الأدبية والنقدية السينمائية ونشرت مقالات في صحف محلية وعربية. وقد شاركت في الكتابة للعديد من الأفلام الوثائقية مع المخرج أحمد رشوان، كما شاركت المخرج العراقي الفرنسي ليث عبدالأمير في فيلم “دمعة الجلاد” الذي حصل على العديد من الجوائز الدولية.
مشاركة :