قبيل انتحاره، كتب شاب مصري يُدعى مصطفى توكل على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك “أراكم على خير، لا تسمحوا لأبي بأن يسير في جنازتي”، وذلك بعد لحظات من كتابة تدوينة قال خلالها “أنا على حافة الانتحار”، ثم انتحر بالقفز بسيارته من أعلى جسر جامعة المنصورة في شرق القاهرة. صب عدد كبير من الشباب القريبين منه جام غضبهم على والده الذي دفعه للانتحار بسبب أسلوب التعامل معه، وتوسلوا له في التعليق على المنشور ألا ينفذ فكرة الانتحار، لكنه اتخذ قراره بالخلاص كي يستريح من أبيه وباقي أفراد عائلته، بعدما أصبح عاجزا عن تحمل العنف النفسي الذي يتعرض له بشكل متكرر. عكست الواقعة خطورة عقوق الآباء للأبناء واستمرار نوع من العنف المسكوت عنه داخل الأسرة، بعدما بات من الأسباب التي تدفع شبّانا وفتيات إلى الانتحار مدفوعين بأذى نفسي من أقرب الناس إليهم وبشكل يصعب تحمله، في ظل تربية تقوم على الترهيب والتسلط والوصاية المطلقة على الأبناء، في كل ما يخص حياتهم الشخصية. أزمة هؤلاء الآباء أنهم تربوا على قدسية توقير الأبناء لهم بدافع ديني وأخلاقي، انطلاقا من أن النصوص القرآنية والنبوية صنفت رضا الوالدين بأنه يأتي في المرتبة الثانية بعد عبادة الرب، لذلك اختزلوا المعاملة الحسنة من الأبناء في الطاعة العمياء، لا أن يكون ذلك نهجا يسير عليه كل طرف، وأن يعامل الأب أولاده بذات الطريقة التي يريد منهم أن يعاملوه بها. الكثير من أرباب الأسر يدمنون التربية القائمة على الخشونة والأذى اللفظي وربما الجسدي ولا يجدون في ذلك عيبا يترتب على هذه الثقافة أن الكثير من أرباب الأسر يدمنون التربية القائمة على الخشونة والأذى اللفظي وربما الجسدي، ولا يجدون في ذلك عيبا بذريعة أن أولادهم مكلفون بالدين والعرف والتقاليد بأن يستجيبوا لهم تحت أي ظرف ويتقبلوا تصرفاتهم مهما كانت قاسية حتى أصبح هناك أبناء عاجزون عن تحمل الأذى وفكروا في الانتحار ونفذه أحدهم أخيرا. واقعة الشاب مصطفى ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكنها سلطت الضوء على أزمة أسرية مصرية تهدد كيان العائلة في مجتمع يقدس الوصاية الأبوية على الأبناء، ووصل العنف إلى مرحلة غير مسبوقة مع اقتناع الكثير من الآباء بأن الحوار والصداقة والتعامل بأسلوب قائم على النقاش والتفهم والنصيحة ضد التربية الصحيحة. قال محمود حمدي، وهو شاب في بداية العقد الثالث من العمر، إن البعض من الآباء يقسون على أولادهم اعتقادا منهم بأن التربية يجب أن تكون كذلك، وهذا أمر بالغ الخطورة على الحالة النفسية للأبناء، ويقود لكراهية الابن لأبيه دون أن يشعر أو يتعمد ذلك، ويتحول إلى فاقد للأمان ومضطرب، وقد تراوده فكرة الانتحار. تذكر حمدي واقعة حدثت قبل عامين لابن عمه، عندما حاول الانتحار بتناول جرعات زائدة من أدوية الضغط، لأن والده تعود على إذلاله وإجباره على العمل في إحدى ورش إصلاح السيارات كي ينفق على نفسه، مع أن الأب مقتدر من الناحية المادية، وما تسبب له في أذى نفسي أن والده طلب من صاحب الورشة إهانة ابنه كي يصبح خشنا. لا ينسى هذا الشاب عندما حاول التدخل لدى عمه وأبلغه بأن ابنه يفكر في الانتحار، حيث تعامل مع الأمر باستخفاف وتمسك بنفس مسار التربية القاسية وتحريض شخص غريب (صاحب الورشة) على إذلاله في العمل بحجة أن ذلك يجعله يتحمل مسؤولية جلب المال من عمله وأصر على أن يواصل حرمان ابنه من أي دعم مادي. Thumbnail يعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن عقوق الآباء للأبناء ظاهرة منتشرة لقناعة أرباب الأسر بأنهم السبب في مجيء أولادهم إلى الدنيا، فهذا يمنحهم الصلاحية الكاملة والمطلقة في التحكم بكل تفاصيل حياتهم، ولو كان بطريقة مؤذية، اعتقادا بأن الأبناء ملكية خاصة للآباء، ولهم حق القول والفعل تجاههم متى وكيفما شاؤوا. هناك آباء يبررون قسوتهم على الأبناء بأن ذلك نتاج سلوكيات وتصرفات خاطئة من أولادهم أو لأنهم يستحقون ذلك لأسباب مرتبطة بتدني الأخلاقيات، لكن في حال الشاب مصطفى الذي انتحر بسبب والده، فهو من الملتزمين دينيا، كما حكى البعض من أصدقائه واعتاد الوقوف بجانب من يحتاجون دعمه وكان منضبطا في دراسته وعمله. مشكلة بعض الآباء أنهم لا يدركون خطورة الاستبداد ناحية الأبناء ولا يعتقدون أن من صور العقوق الفجة تجاه الأبناء الاعتقاد بأنهم يملكون الحق الأوحد، بينما هم دائما على خطأ، ما يتسبب في فجوة نفسية بين الطرفين ونتائج سلبية على الشباب والفتيات، إذ يكرهون الأسرة دون تخطيط ويفضلون الموت عن هذه الحياة. في صورة استمرت هذه السلبية من جانب المؤسسات المفترض فيها التوعية بخطاب تربوي عقلاني، وسلبية الآباء أيضا، سوف يستمر تأسيس الأسر على ميراث العنف وتتعمق الفجوة النفسية بين الآباء والأبناء أكد جمال فرويز استشاري الطب النفسي وتقويم السلوك بالقاهرة أن انتحار شاب نتيجة سوء المعاملة الأبوية لا يحدث إلا عندما يصل إلى مرحلة متقدمة من اليأس، ويشعر بأنه مستهدف طوال الوقت من أقرب الناس إليه أو أنه صار عبئا على الأسرة التي يفترض فيها الأمان والاحتواء والطمأنينة، وتكمن الأزمة الحقيقية في أن يقتنع بعض الآباء بجدوى التربية القاسية. وأضاف لـ “العرب” أن الأب ضحية ثقافة رجعية بأنه من حقه التحكم في مصائر أولاده بأي طريقة ترضيه، مع أن الأجيال الجديدة أصبحت منفتحة ومتحررة ثقافيا وفكريا أكثر من أي وقت مضى، وبعض الشباب والفتيات يرى أن الموت أقل عذابا من قسوة الأبوين، والخطر في قهر الابن دون الاكتراث بميوله الانتحارية. وذهبت بعض الدراسات النفسية إلى أن الشاب أو الفتاة عندما يصل أي منهما إلى مرحلة تفضيل الموت على القهر الأبوي، فإن ذلك يعكس التعرض لأنواع مختلفة من الأذى، لكن الإشكالية المعقدة تكمن في أن الطفل الذي تربى على العنف يرث نفس الثقافة عندما يصبح أبا ويمارس التسلط والعقوبة تجاه أولاده، ما يتطلب إعادة تثقيف المجتمع دينيا وفكريا بماهية التربية الصحيحة التي تتأسس على أبعاد إنسانية. تظل إشكالية العديد من المؤسسات المفترض فيها التوعية بالتربية الحسنة أنها تخشى التطرق إلى خطورة وأشكال وأساليب عقوق الآباء تجاه الأبناء ولو بغرض التوعية خشية اتهامها بتحريض الشباب والفتيات على الأسرة، لتستمر الأزمة في تصاعد ويزداد عدد الضحايا، في صورة هروب من المنزل أو عداء مطلق بين الآباء والأبناء، أو وصول الأمر حد الانتحار هربا من التسلط الأبوي في التربية. وفي حال استمرت هذه السلبية من جانب المؤسسات المفترض فيها التوعية بخطاب تربوي عقلاني، وسلبية الآباء أيضا، سوف يستمر تأسيس الأسر على ميراث العنف وتتعمق الفجوة النفسية بين الآباء والأبناء على وقع الجهل بمعايير التنشئة السليمة، ما يحوّل الترهيب إلى ثقافة أبوية لها عواقب وخيمة، وإذا لم يقد ذلك للكراهية والجحود فقد يصبح دافعا لإراحة النفس ولو بالانتحار.
مشاركة :