ترددتُ كثيراً في كتابة مقال اليوم، فكنتُ دائماً أعتبر أن موضوع الأجسام الفضائية غير المعروفة والمجهولة، والأجسام السماوية غير المحددة الهوية من المواضيع التي تدخل فيها أفلام هوليود وتخيلاتها المستقبلية، وكنتُ أضعها ضمن باب الخرافات العلمية، أو الخيال العلمي الواسع الذي قد يفكر فيه البعض، ويكتب عنه الروايات العلمية والنظرية. وفي الوقت نفسه يأتي أيضاً موضوع وظاهرة الأطباق الطائرة، أو السفن الفضائية الغامضة وغير المعروفة، فهذا الموضوع أيضاً بالنسبة لي لا يُعد مجالاً علمياً له مصداقية، ويمكن الوثوق بما يُكتب عنه في وسائل الإعلام، أو يعرض في الأفلام السينمائية، أو القصص العلمية. ولكن نظْرتي هذه تغيرت قليلاً عندما قرأتُ بأن «ناسا»، أو وكالة الفضاء الأمريكية، وهي «الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء» (National Aeronautics and Space Administration)، قد قررت الولوج في بحر هذه القضية، والتعرف عليها، وفك ألغازها وأسرارها ومدى واقعيتها. فهذه الوكالة ذات مصداقية عالية، وتتمتع بثقة مرتفعة، ليس في المجتمع الأمريكي فحسب، وإنما على مستوى دول العالم أجمع، ولذلك فهذه الوكالة الفضائية العريقة ذات الإنجازات غير المسبوقة تاريخياً على المستوى الدولي لن تخاطر بسمعتها، ولن تجازف في الدخول في أية قضية قد تؤثر وتلطخ هذا التراث العلمي الفضائي التاريخي المتراكم منذ 65 عاماً. فقد أعلنت «ناسا» في التاسع من يونيو 2022 بأنها قد شكلت فريق عمل مستقل لدراسة «ظواهر الأجسام الفضائية غير المعروفة» (unidentified aerial phenomena (UAP))، والمعروفة إعلامياً بالأجسام الطائرة المجهولة (UFOs)، حيث سيهتم الفريق العلمي المتخصص في البحث في جميع الظواهر السماوية غير المعروفة وغير المحددة، أي الظواهر غير الطبيعية، وغير المألوفة، والتي لا توجد لها تفسيرات علمية موثقة، ولا يوجد دليل حسي دامغ عليها. ولذلك تَتَحدد مهمة الفريق في عدة أعمال، منها حصر المعلومات المتوافرة حتى الآن من كافة الجهات المدنية والعسكرية والأمنية من القطاعات الحكومية الرسمية، ومن منظمات وجمعيات المجتمع المدني ومن الشركات الخاصة، ثم جمع وتحليل كافة النظريات المطروحة حول هذه الظواهر الفضائية، وأخيراً اتباع المنهج العلمي في تحليل وتقييم كل هذه المعلومات، وتحديد مدى مصداقيتها وثقتها، وطرح الاستنتاجات التي تتمخض عنها. ويرجع تاريخ الجهود المبذولة لتفسير هذه الظواهر منذ أن أعلن وزير القوات الجوية في 11 ديسمبر 1969 تزامناً مع أول جلسة استماع للكونجرس عن انتهاء المشروع السري تحت عنوان «مشروع الكتاب الأزرق» (Project Blue Book) الذي استمر من 1947 إلى 1969، والآن رفعت السرية عن هذا المشروع ويمكن الاطلاع على كافة الوثائق التي تحتوي على 2000 صفحة، إضافة إلى صور وأفلام وفيديوهات حول هذه الأجسام الطائرة والظواهر الجوية الغامضة. ويمكن تلخيص الاستنتاجات التي تمخضت عن مشروع الكتاب الأزرق في عدة نقاط هي أنه لم تُسجل أجسام وظواهر مجهولة خلال التحقيق والدراسة بحيث إنها تشكل تهديداً للأمن القومي، كما أنه لا توجد ظواهر وأجسام تمثل تطوراً تقنياً عالياً مختلفاً عن التطورات العلمية التي توصلت إليها أمريكا ودول العالم، وأخيراً لم تشر الدراسة إلى مشاهدة أجسام طائرة مجهولة من خارج كوكب الأرض. وبعد هذه الجلسة الأولى، وبعد إسدال الستار الرسمي على مشروع الكتاب الأزرق، خيَّم صمت طويل على هذا الموضوع من الجهات التشريعية والرقابية الممثلة بالكونجرس والجهات الحكومية المعنية، حتى صدور النشرة الإعلامية لوزارة الدفاع في 14 أغسطس 2020، والتي أعلنت عن تشكيل فريق العمل تحت مسمى «فريق عمل للظواهر الجوية المجهولة» (Unidentified Aerial Phenomena Task Force (UAPTF))، ويهدف إلى دراسة الظاهرة والتعرف عليها عن قرب من ناحية طبيعتها ومصدرها، وتحليل المعلومات المتوافرة حولها، ومدى تهديدها للأمن القومي. وفي 25 يونيو 2021 نشر مكتب مدير الاستخبارات القومية (National Intelligence) التقرير الرسمي الثاني تحت عنوان: «تقييم أولي من حكومة الولايات المتحدة حول الظواهر الفضائية غير المعروفة» ( A preliminary assessment by the U.S. government on unidentified aerial phenomena)، والذي هدف إلى تقييم الحالات والظواهر التي تم تسجيلها ورصدها من الأجهزة الحكومية المعنية من نوفمبر 2004 إلى مارس 2021. وقد خلص التقرير إلى عدة نقاط عامة منها عدم وجود منهجية علمية موثقة لتسجيل هذه الظواهر السماوية، مما يُصعِّب عملية التقييم والتوصل إلى استنتاجات علمية محددة ذات مصداقية عالية، كما أن الحالات التي تم رصدها لم تقدم أدلة محسوسة، أو وصفا علميا منهجيا دقيقا. وعلاوة على ذلك، فقد أكد التقرير أن هناك شحاً في المعلومات الموثوقة، ولا توجد طريقة علمية معتمدة ومتعارف عليها لتسجيل وتدوين هذه الظواهر. وفي 17 مايو 2022، عقد الكونجرس جلسة استماع ثانية ونادرة من نوعها لإعادة طرح موضوع الظواهر المجهولة، وإحيائها بعد نومها أكثر من 53 عاماً. ومن وقائع هذه الجلسة، شريط الفيديو السري الذي قدَّمه نائب مدير الاستخبارات البحرية (Scott Bray) لأول مرة علانية، ووصف فيه «جسما دائريا» له سطح عاكس مرَّ على طائرة أمريكية حربية، وقال: «ليس لدي تفسير عن هوية هذا الجسم». كما قال وكيل وزارة الدفاع المساعد للاستخبارات والأمن (Ronald Moultrie) أن البنتاجون يجمع معلومات عن أجسام طائرة غريبة تتحدى قانون الفيزياء، كما قال: «بأننا نعلم بأن جنودنا تعرضوا لظواهر فضائية غير معروفة، ونحن ملتزمون لمعرفة مصادرها». وهذه الجلسة لم تخرج باستنتاجات واضحة ودامغة، حيث أشارت إلى عدم وجود أدلة على أن هذه الظواهر تمثل أجساماً متطورة ومتقدمة معادية للأمن القومي، كما لا توجد أدلة على أنها من مصادر خارج الفضاء، أو خارج كوكبنا (extraterrestrial). أما عن «ناسا» التي تم تكليفها بالتحقيق في الموضوع وحُددت مهمتها في تسعة أشهر، فقد أشارت مبدئياً إلى عدة نظريات وفرضيات مطروحة حالياً، منها فرضية أن هذه الأجسام السماوية قد تكون مخلفات أو أجسام من صنع البشر كالمناطيد والبالونات، والبلاستيك المنفوخ بالهواء، أو طيور مهاجرة، أو بلورات الثلج، أو ظاهرة الانقلابات الحرارية الطبيعية، أو قد تكون أجساماً معادية من دول أخرى تستخدم تقنيات أسرع من الصوت، أي أنها جزء من برنامج تجسسي لدول أخرى. وجدير بالذكر فإن كل، أو معظم الجهود، والتقارير، والمعلومات حول هذه الأجسام والظواهر الجوية والفضائية المجهولة مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن أية تقارير تصدر من أمريكا قد تكون متحيزة ولها أهداف سياسية، فلا يمكن التأكد من مصداقيتها من أية مصادر مستقلة أخرى، علماً بأن الصين ممثلة في وزارة العلوم والتكنولوجيا نشرت اكتشافا غريباً لأول مرة حول هذا الموضوع في 15 يونيو 2022 في صحيفتها «يوميات العلوم والتكنلوجيا» ( Science and Technology Daily). وهذا الاكتشاف الجديد رصده التلسكوب الصيني المعروف «عين السماء» (Sky Eye)، أو ( Aperture Spherical Radio Telescope (FAST))، حيث سجل ورصد «إشارات كهرومغناطيسية مختلفة عن الإشارات السابقة، وقد يكون مصدرها من خارج كوكب الأرض» وهذه الموجات الكهرومغناطيسية كانت في مجال ترددات الراديو. ولكن الغريب أن نص هذا الاكتشاف المنشور في الصحيفة اختفى كلياً وفقاً للتحقيق المنشور في صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية في 18 يونيو 2022 تحت عنوان: «التلسكوب الصيني لم يجد إشارات من كائنات فضائية. البحث يستمر»، حيث أشار التحقيق إلى أن هذا الاكتشاف كان بمثابة الإنذار الخاطئ. وختاماً فإن موضوع الظواهر الجوية المجهولة معقد جداً وله تداخلات كثيرة مع ما هو موجود على الأرض، فمازال بعيداً عن الحقيقة والاكتشاف العلمي الدامغ، ومن الصعب، مهما فعل العلماء الوصول إلى استنتاجات علمية عالية الدقة من حيث ثباتها ومصداقيتها، وسنضطر في نهاية المطاف إلى الاعتماد على «مصداقية ونزاهة» الولايات المتحدة في التقارير التي ستصدرها في المستقبل. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :