وأواصل الحديث في هذا الموضوع فأقول: البيت أعلاه من قصيدة وجهها شاعر من الجن اسمه خرفش إلى شاعر آخر من الجن أيضاً اسمه شركب, وكان شركب قد رد على قصيدة خرفش هذه بقصيدة مماثلة, وذكروا في مناسبة البدع والرد أن (شركب) أحب فتاة إنسية فغضب عليه عمه المارد الأكبر (عرنكش) فأرسل إليه ابنه خرفش ليحضره فكان هذا الحوار الشعري بين خرفش وشركب, والراوي بالطبع إنسي! والمسألة كلها لا تعدو خيال شاعر ولا أعرف من هذا الشاعر, وغاية هذه الرواية المخترعة كما ذكرنا من قبل هي الإثارة والمتعة, وهي إثارة مقبولة لأنها واضحة الاختلاق, ولا يعتقد أنها حقيقة إلا مشكوك في سلامته العقلية. الإنس أعظم من الجن فكيف يُنسب للأضعف التأثير في الأقوى؟ إنها الإثارة تأسر اللب وتسحر العقل ليس غير, والنفس تنساق وتتأثر بكل مجهول لا تدركه الحواس, والجن أشهر المجاهيل لأنهم خلق يرانا ولا نراه. لقد زعم بعض من شعراء هذا العصر - تلميحاً أو تصريحاً - أنهم يتلقون الشعر عن الجن, وربما بدت من بعضهم تصرفات غير طبيعية - مقصودة أو غير مقصودة - في أثناء إلقاء الشعر تعزز لدى مريديهم فكرة تواصلهم مع الجن. وفي استطلاع نشرته جريدة المدينة قبل أربع سنوات تقريباً عن علاقة الشعراء بالجن أوردت فيه لقاءات مع عدد من شعراء النبط, قال الشاعر المثير مانع بن شلحاط: «كذاب مَن يقول إن للجن علاقة بالشعر أو الشاعر، فالشعر موهبة حسنها حسن وقبيحها قبيح، ولكن هناك شعراء من المؤسف طبعا أنهم يستعملون بعض المواد المنشطة كالكبتاجون والتي قد تؤثر في سلوكه مما يساعد على الهلوسة»!! قلت وفي يقيني أن المخدرات والمنشطات لا علاقة لها بالإبداع, وإذا كان بعض الشعراء مبتلى بها فإن ابتلاءه شخصي لا علاقة له بالأدب والتأمل والدخول في عوالم ما وراء العقل والإدراك, فالعقل هو العقل لا يزيده مؤثر خارجي ولا يُنقصه. أما (شيطان الشعر) فعنوان مثير, ودال خطير, لمدلول يسير, وأظن أنهم أطلقوا هذا ابتداء على سبيل الإثارة والتفاخر وربما كانت له عوائد مادية, ثم نُسيت الحقيقة وشاع الاسم المستعار, فكان كالكذبة تشيع بين الناس ثم تصبح مع مرور الزمن حقيقة. وأكاد أجزم أن (شيطان الشعر) ما هو إلا (القريحة) وهي القدرة على قول الشعر وهي تتفاوت بحسب الموهبة والاستعداد. ذكر الجاحظ في (البيان والتبيين 1-118) أن بعض الشعراء قال لرجل: أنا أقول القصيدة في ساعة وأنت تقرضها في شهر, فلم ذلك؟ قال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبل من شيطانِك. وليس بمنكر أن يقال إن الشيطان الوارد في هذا النص ليس سوى القريحة؟ ومثل هذا ما ذكره الأصفهاني في (الأغاني) أن الرشيد قال لابن مناذر الشاعر: ما هذا الذي يحكيه عنك أبو العتاهية ؟ فقال ابن مناذر: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: زعم أنك تقول قصيدة في سنة, وأنه يقول مئتي قصيدة في السنة, فقال: يا أمير المؤمنين, لو كنت أقول كما يقول: ألا يا عتبة الساعة أموت الساعة الساعة لقلت منه كثيراً, ولكني الذي أقول: إن عبد المجيد يوم تولى هدَّ ركنا ما كان بالمهدود ... إلخ فقول ابن مناذر هذا يدل على أنه لا يقبل من قريحته إلا ما يراه مناسباً, وهذه القريحة هي الشيطان الذي ورد في خبر الجاحظ. مقالات أخرى للكاتب يباري الساس الليالي تصحيه سياحة في بيت رحيل الأحبة (1) الخال
مشاركة :