والبيت أعلاه من مرثية عميقة الألم, صاغتها روح مفجوعة وقريحة موهوبة, وكيف لا تكون كذلك والفقيد هو المرحوم الشاعر عبدالله بن مستور المسعودي الهذلي (1364-1400هـ), أحد رموز شعراء المحاورة في الحجاز في زمنه, الشاعر الذي رقصت له قلوب عشاق المحاورة وعشاق شعره طربا, وتمايلت على وقع أبياته جبال الطائف نشوة وحبورا! لم يكن المرحوم الشاعر عبدالله المسعودي حدثا عابرا في شعر المحاورة ككثير ممن عبروا قنطرة هذا الفن, بل كان أحد نجومه الكبار ورموزه اللامعين المؤثرين. والمسعودي في عالم جمهوره العاشق كان ملء السمع والبصر, فنارا مضيئا هاديا, ومنهلا عذبا راويا, شامخا كالجدي, لامعا كسهيل اليماني. لم يعش المسعودي طويلا فقد توفي رحمه الله دون الأربعين, فكان كما قال التهامي: يا كوكبا ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحار وهلال أيام مضى لم يستدر بدراً ولم يمهل لوقت سرار عجل الخسوف عليه قبل أوانه فمحاه قبل مظنة الإبدار توفي رحمه فبكاه الشعر والشعراء والجمهور, ورثاه والده بقصيدة مطلعها: سمّيت باسم الله مطلع كلامي اللي إليه الأمر والمصير ومنها: يالله يا عالم على ما حصل لنا تلطف بنا يا جابر الكسير يالله تعوضنا وترحم فقيدنا اللي رحل في وقته القصير كما رثاه ابن عمه وزميله في المحاورة رداد المسعودي, بقصيدة منها بيت السياحة أعلاه, ومطلعها: حاولت أقنع خاطري عنك وأنساك يا من سكن وسط الكفن باللحودي ومنها: مرسى جبل محد قدر قال يرقاك والناس ما تكسر حصاة بعودي بحر غزير الموج ما ينتهي ماك واللي سبح به ما عرف له حدودي كما رثاه زميله صالح المطرفي بقصيدة مطلعها: مرحوم ياللي فاللقا نعتزّ به نعتز به في لمة الحضّار ومنها: والله لأذكر كل ما شفت ملعبه واذكر ليا جا طاري الشعّار واذكر ليا مني لهجت أمثاله اللي تقص العظم والمسمار كما رثاه أيضا زميله وصديقه مطلق الثبيتي رحمه الله بقصيدة مؤثرة وعميقة, مطلعها: ما تنفع الشكوى ولا ينفع البكا ولا تنفع الونات والأحزان ومنها: أبكي على فرقى صديق فقدته بين اللحود وطينة الأكفان عشرين عام والهوى يتبع الهوى أكثر من الخلان والإخوان ما مر يوم ما ذكرته بخاطري أخ وصديق وخيرة الجيران وعلى الرغم من أن المسعودي رحمه الله كان أميا لا يقرأ ولا يكتب إلا أنه كان شاعرا موهوبا مطبوعا لمّاحا, ذكيا «لا تفوته إشارة ولا تخفى عليه عبارة» ولا تند عنه شاردة ولا واردة في المحاورة, ولا عجب في هذا فالشاعرية موهبة لا يصنعها التعليم ولا تخلقها الثقافة. كان شعر (النظم) ينثال على لسانه كشلال من الماء العذب البارد الزلال, وشعر (المحاورة) ينحدر من فيه قويا كجلاميد الصخر تنحطّ من عل, وكصهيل الخيل المضطربة في حومة الوغى. وقد أشار الدكتور سعود أبوتاكي في كتابه (شاعر هذيل) إلى أن أبرز مكونات شاعرية المسعودي خمسة أسباب هي: «الموهبة الموروثة, وحدة الذكاء, وتربية البادية, والسماع والممارسة, والثقافة المكتسبة بالسماع». وأظن أن السببين الأول والثاني إضافة إلى توقد الذهن والجاذبية (الكاريزما) وروح القيادة, ووجوده بين كوكبة لامعة من شعراء المحاورة البارزين مثل الجبرتي ومطلق ومستور والسواط وشليويح والمطرفي ورداد وعالي وابن تويم وابن رويجح .. وغيرهم, كان لها الأثر الأكبر في صياغة شخصيته المتفردة. وإذا كان المسعودي قد برز وركز اهتمامه في المحاورة, فإنه كان -كغيره من معظم شعرائها- شاعر نظم مبدعا, وله شعر رقيق عذب, كقوله: يا بوعيون شوفها يذبح صدّر علي أمرك وأنا خدام يا فرحة الخاطر متى نفرح خلاص يكفينا زعل وخصام وقال في حب وطنه السعودية: غريب دار وشوقتني بلادي الله يرجعني لها بالسلامة ومنها: يا فاتنة باسمك أجاوب وأنادي لبست لك ثوب الفرح والعمامة مفتون فيك وكل ما أخفيت بادي لا من يلوم ولا ني أسمع ملامه وله شعر أخلاقي يعبر عن أصالة ونضج وحسن خلق, قال: ودي بزينات المعاني وطيبها لعل لي في الطيبات نصيب وقال: يا مستغيب الناس ماني غيوبي ماني لغيري لا بَوَدّي ولا جيب عن عيب غيري شاغلتني عيوبي من يشغله عيبه ما شاهد لأحد عيب وقال: يا لساني احذر عن فمي لا تعدي قدام لاعضّك على الضرس والناب واحذر تودي هرجة ما تودي واليا بدت قالوا لك الناس كذاب وقال في صباه معبرا عن حياة أهل البادية وأمانيهم, وراسما صورة مؤثرة وجميلة لتلك الحياة: يالله من نوٍّ خياله يقوده يمطر على ذيك الديا ر عصير يسقي شجرها ثم يخضر عوده ويعود فوق الباديه بالخير يا طيب مطلاع الجبل يوم أروده مبدا الجبل طيّب وغيره غير مواشي للبدو ترعى حيوده وإن وردوها فـْروض وبير مقالات أخرى للكاتب هات الثلاث شابت لحانا قلق الانتظار زمان الشلخ الشعراء والجن (2)
مشاركة :