قال الشاعر عبدالله العلي الدويرج رحمه الله: بديت طرق على اللي ما يعرفه يستغرب قفوله سكه غريبه ولا تخفى على اللي للهوى صرافي الحديث في (بحور الشعر النبطي وأوزانه) من المجالات الوعرة التي يجنب كثير من الباحثين في الشعر النبطي من المنظرين والمؤرخين والمتذوقين، الخوض فيها، ربما لأنهم -أو بعضهم- منقطعون عن أوزان الشعر الفصيح التي بلورها عالم العربية الكبير، الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله (ت 170هـ) في بحوره الخمسة عشر في علم (العروض)، ووضع أسسًا لمنطلقات التجديد فيها عبر (الدوائر العروضية) التي كشفت عن أوزان مهملة لم تنظم عليها العرب. أما الطويلات العسيرة من أوزانه فيمرون بها - إن مروا - مرور الحجاج بوادي محسر؛ لأن الحديث فيها ربما يعتوره شيء من الاضطراب؛ لأن مجالها ضبابي، غائم، كثيف الظلام، وأرضها وعرة زلقة تزل فيها الأقدام. والشعراء يعرفون الأوزان سليقةً وإن لم يستطيعوا أن يعبروا عنها، وليس من شأنهم أن يعبروا. ونظن أن الإبحار في مجال أوزان الشعر النبطي لا يتحقق إلا بشروط ستة، هي: الأول: الإيمان بأصالة العلاقة بين الشعر النبطي والشعر العربي الفصيح، من غير إفراط ولا تفريط، إيمانًا مبنيًا على علم ومعرفة وإدراك، واليقين بهذه العلاقة يقينًا يعتمد على استقراء وملاحظة، ومقارنة وتجربة وتطبيق. والثاني: الإلمام بطبيعة الفنون، لإدراك طبيعة العلاقة بين الغناء (الألحان) وبين الشعر (الأوزان)، وعدم الخلط بينهما عند تحرير الأوزان الشعرية. والثالث: الإلمام بعلوم العربية المختلفة، ومعرفة الفوارق بين دلالات المصطلحات وخاصة المصطلحات (العروضية) و(الأدبية) و(البلاغية) و(النقدية). والرابع: الإلمام بعلمي (العروض والقافية) تنظيرًا وتطبيقًا. والخامس: مراعاة خصوصية الشعر النبطي، فيما يتعلق بتطبيق ضوابط (علمي العروض والقافية) عليه، وخاصةً في (الزحافات والعلل)، فما كل ما يجري منها على بحور الفصيح يجري بالضرورة على ما يقابله منها في الشعر النبطي. والسادس: معرفة لهجات القبائل والمناطق. والملاحظ أن هذه الشروط قلما تحققت مجتمعةً فيمن باشروا الحديث في أوزان الشعر النبطي وبحوره، وقد رأينا كثيرًا من الأحاديث المنشورة في الأوزان يسودها شيء من التخبط وعدم الوضوح، وبعضها يحوم حول حماها لكنه لا يقع فيه. ونرى أن من أهم الأسباب التي أفشلت التقدم في تحديد أوزان الشعر النبطي وضبطها، هو الخلط المستشري بين (الأوزان) و(الألحان)، مع أن الأوزان (علم) والألحان (فن). ولاحظنا أن بعضًا من الباحثين المعتبرين الذين توصلوا إلى أن أوزان الشعر النبطي تعود إلى أوزان الفصيح لم تكن لديهم الجرأة على أن ينسبوا أوزان بعض القصائد التي تطابق أوزان الفصيح مطابقةً تامةً أو غير تامة إلى أوزان الخليل. ومنهم - على سبيل المثال - شيخ المحققين في هذا العلم أبو عبدالرحمن ابن عقيل، الذي يصرح بأن وزن ما يسمى (اللحن الشيباني أو اللويحاني) المكون من (مفاعيلن) أربع مرات في كل شطر على (بحر الهزج)، لكنه يتوقف عن نسبته إلى (بحر الهزج)؛ لأنه يجيء على أربع تفعيلات في كل شطر، والهزج في الشعر الفصيح لا يأتي إلا مجزوءًا، أي على (مفاعيلن) مرتين في كل شطر. كما يسكت عن نسبة القصيدة إلى (بحر الرجز) إذا كانت عروضها وضربها (مقطوعين)؛ لهذه العلة كما يظهر، مع أنها علة شائعة في الأراجيز الفصيحة! وأبو عبدالرحمن بن عقيل أشهر المنظرين الذين تحدثوا في أوزان الشعر النبطي عن علم وإحاطة وإلمام، وتناول بعضها في بعض كتبه ومقالاته ومقدماته لبعض الكتب والدواوين، كما أفرد لها كتابًا ربما يكون هو الأول في مجاله لو أنه أتمه، وهو كتابه (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي بلهجة أهل نجد والإشارة إلى بعض ألحانه)، الذي نشر السفر الأول منه عام 1412هـ وتناول فيه كلًا من وزن (المسحوب) ووزن (اللحن الشيباني). كما خرج فيه أوزان القصائد في دواوين كل من: (الهزاني، وابن لعبون، وابن سبيل، وابن جعيثن، ونمر بن عدوان، وابن دويرج، وراشد ابن عفيشة، وعمير ابن عفيشة). وذكر أنه سيكمل البحث في بقية أوزان الشعر النبطي، ويخرج أوزان القصائد في دواوين أخرى، في أسفار تالية، غير أنه لم يفعل، إذ توقف عمله هذا عند السفر الأول! وأول كتاب تناول (أوزان الشعر النبطي) - فيما أعلم - صدر سنة 1378هـ وهو كتاب (الأدب الشعبي في جزيرة العرب) للعلامة الشيخ عبدالله ابن خميس رحمه الله. ولا نستغرب أن يكون حديثه فيه عن أوزان الشعر النبطي غير دقيق، فالبحث في مجال من المجالات المهملة كأوزان (الشعر النبطي) ذي السمات اللغوية والصوتية الخاصة، لا تتضح فيه المعالم - غالبًا - منذ المحاولة الأولى، وهذا ما وقع له رحمه الله في هذا الكتاب، قال (1): «من الصعب حصر الشعر النبطي في أوزان محدودة بحيث توضع لها تفاعيل... ولقد حاولت - عن طريق التتبع والاستقراء - حصر أوزان هذا الشعر فلم أصل - بعد - إلى نتيجة، ثم عمدت إلى مجموعة شعر لأحد شعراء النبط وهو إبراهيم ابن جعيثن، وهو من المكثرين وممن يتلاعبون بأوزان هذا الشعر، ويتفننون في ضروبه، فوصلت إلى ما يقارب عشرين وزنًا ولما أقارب نهاية الديوان، فكيف بجميع الديوان؟ ثم كيف بجميع شعراء النبط قديمهم وحديثهم؟. وقد ناقشه أبو عبدالرحمن ابن عقيل في هذا، فقال(2): «جميع قصائد ابن جعيثن في ديوانه على سبعة أبحر لا غير، وإذا أردنا التحرج في الإحصاء قلنا: إن شعر ابن جعيثن على تسعة أوزان فنضيف ضربًا من الطويل على وزن (فاع)... ولقد أورد ثمانية عشر بيتًا تؤلف ثمانية عشر وزنًا، وإنما هي بضعة أبحر بأوزان قليلة». ثم فصل أبو عبدالرحمن القول في هذا. قلت: وأما قوله (وإذا أردنا التحرج في الإحصاء ..) فيشير إلى ما ذكرناه قبل قليل من تحفظه في نسبة بعض الأوزان إلى بحورها الفصيحة إذا اختلفت أعاريضها وأضربها زيادةً أو نقصًا! وفي سنة 1384هـ 1964م صدر كتاب (الشعر عند البدو) للدكتور شفيق الكمالي رحمه الله (ت 1404هـ)، فتناول فيه أوزان الشعر النبطي لكنه لم يأت بجديد في أوزان الشعر النبطي، وقال متابعًا ابن خميس(3): «لقد حاولت جاهدًا أن أحصر أوزان هذا الشعر فلم أصل إلى نتيجة». وفي سنة 1407هـ 1987م صدر الجزء الثاني من كتاب (الموسوعة النبطية الكاملة) للشاعر طلال العثمان المزعل السعيد، وفيه بحوث مهمة جديرة بالتأمل، غير أنه في الحديث عن الأوزان (خلط الحابل بالنابل) فقد جعل من الأوزان: (الحداء والعرضة والسامري والفنون)، وهي فنون (ألحان) لا أوزان، وإن كان (الحداء) خاصًا بمجزوء الرجز. وجعل منها (المروبع والزهيري) وهما من الأشكال الشعرية لا من الأوزان، وجعل منها (الجناس) وهو محسن بلاغي لا وزن شعري، مع العلم أن (الزهيري) شكل شعري يعتمد على الجناس أيضًا(4)! وفي سنة 1410هـ 1990م صدر كتاب (الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية) للدكتور غسان حسن أحمد الحسن، وهو دراسة علمية أكاديمية (رسالة دكتوراه). وقد تناول فيها (أوزان الشعر النبطي) في مبحث طويل يعادل ثلث الكتاب بجزأيه تقريبًا. ومن أهم ما في هذا المبحث تفريقه بين (الألحان) و(الأوزان)، فقد عرف الألحان بأنها(5): «أساليب الترديد والتطريب والأهازيج والغناء التي تكون مادتها القصائد والأشعار النبطية..». وحاول المؤلف أن يحصر أوزان الشعر النبطي، وعد منها 44 وزنًا! وليس في الشعر الفصيح ولا النبطي هذا العدد من الأوزان (البحور) ولا نصفه(6)، وإنما هي (أعاريض وأضرب)(7). وما وجد منها مطابقًا لبحور الفصيح قال عنه شبيه (أو مماثل) البحر الفلاني، فلا ينسبه إليه. وما خالفه إما في (مد التفعيلات) أو (في قصرها) أو في دخول (زحافات وعلل) عليه لا تدخل على بحره في الفصيح، توقف عنده ولم ينسبه إلى بحره الفصيح وهذا الحذر العلمي مفهوم. كما أنه قطع بعض الأبيات عروضيًا بطريقة مختلفة فاختلفت عليه الأوزان. ثم صدر سنة 1412هـ كتاب (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي) لأبي عبدالرحمن ابن عقيل، وأبو عبدالرحمن كما ذكرنا عالم موسوعي، وهو من أعلم الناس بالشعر النبطي: فلسفته وأوزانه. ولنا على كتابه هذا بعض التعليقات والملاحظات اليسيرة ذكرنا شيئًا منها قبل قليل. وفي سنة 1421هـ صدر كتاب (الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص) للدكتور سعد الصويان، وقد وضع فيه مبحثًا طويلًا خاصًا بالأوزان، يعنينا منه هنا قضيتان طرحهما: الأولى قوله (ص145) عن شعراء النبط: إنهم «لم يقيدوا أنفسهم ببحور الخليل الشعرية، بل إن البعض منهم كان يكلف نفسه في البحث عن أوزان جديدة، ومنهم من اشتهر باختراعه إما لوزن جديد أو لطريقة جديدة في التغني. والتجديد في الأوزان مثل التغير في اللغة، عملية مستمرة ومفتوحة». فهو يقرر هنا أن هناك أوزانًا (خرجت عن بحور الخليل) وأن (التجديد في الأوزان) عملية مستمرة، ولعل هذه هي أول إشارة إلى خروج بعض أوزان الشعر النبطي عن بحور الخليل. أما القضية الثانية فهي توقفه عن نسبة أوزان الشعر النبطي التي يرى أن بينها وبين بحور الشعر الفصيح تشابهًا ملحوظًا، توقف عن نسبتها إلى بحورها بسبب ما أسماه (التغيرات الصوتية)، قال(8): إن ما «يمنعنا من أن نقول تطابقًا تامًا هو بعض الاختلافات التي مردها إلى التغيرات الصوتية التي مرت بها لغة الشعر النبطي، وإلى ميلها نحو تنسيق الصيغ العروضية وتبسيطها»! قلت: عند تحديد التفعيلات في التقطيع العروضي للأبيات في الشعر النبطي، لا نراعي في معظم الأحيان كيفية نطق الكلمة في لهجة قائلها أو اللهجة السائدة لقراءة الشعر، وإنما نراعيها أثناء قراءة القصيدة إما إلقاءً أو غناءً فقط، لأن الكتابة غير النطق، وهذا الفارق الدقيق لا يعرفه إلا من نشأ في البيئة التي تنتج هذا الشعر وتنطقه بنفس اللهجة التي يتحدث بها أهله، فهو من خصوصيات الشعر النبطي، والدكتور الصويان من هذه البيئة ولادةً ونشأةً وتعليمًا، ويعرف هذا، غير أن تحفظه الأكاديمي ربما كان يقيده. وفي سنة 1421هـ أيضًا صدر كتاب (طواريق النبط) للباحث الأستاذ إبراهيم الخالدي، وهو كتاب تعليمي إجرائي مباشر، ولعله أول من توسع في نسبة بحور الشعر النبطي إلى أصولها الفصيحة، خاصةً تلك التي توقف فيها غيره، إما بسبب اختلافها عن مثيلها في الشعر الفصيح في (الزحافات والعلل) أو بسبب الزيادة والنقصان في التفعيلات. ونرى أن هذا الكتاب من أفضل الكتب التي قربت أوزان الشعر النبطي وأتاحتها للمبتدئين والمختصين على حد سواء، فهو الذي تجاوز التحفظ المبالغ فيه لدى بعض الباحثين، ومهد الطريق الوعرة في هذا المجال، وقدمه إلى العامة بأسلوب إجرائي ميسر. وعلى الرغم من ريادته إلا أنه لم يسلم من الوقوع في بعض ما نراه أخطاءً، سواء في المحتوى؛ أو في الإحاطة؛ أو حتى في الإخراج الفني. وهذا أمر طبيعي لا يسلم منه كاتب ولا مكتوب ولا كتاب. وقد استفاد مؤلفه فيه مما ألف قبله، وأشار إلى من سبقوه في التطرق لهذا الموضوع، وذكر سبقهم وفضلهم(9). ثم توالت الكتب في هذا المجال، وآخرها كتاب (المرجع الوافي في الأوزان والقوافي) للدكتور عبدالله غليس، الذي صدرت طبعته الثانية (المزيدة والمنقحة) سنة 1445هـ 2023م. وهو كتاب بذل فيه مؤلفه جهدًا بحثيًا كبيرًا وصاغه بأسلوب ميسر أفصح عن إلمامه وتمكنه من علمي العروض والقافية. وهو ككتاب الخالدي سيسهم في تقريب علمي (العروض والقافية) لأذهان المتذوقين من العامة ومن غير المختصين، فقد شرح هذين العلمين بصورة إجرائية واضحة، وشرح مصطلحاتهما. وهو بلا شك (مرجع) من مراجع هذا الفن، لكنه ليس (وافيًا) كما يقول عنوانه؛ لأنه أهمل جانبًا كبيرًا ومهمًا من أوزان الشعر النبطي، وهو (الأوزان الطويلة المعوسرة). وإن يكن قد أشار إلى هذا بأسلوب غير مباشر، ووضع له ما يفهم منه أنه محددات كافية تشمل هذا النوع من الأوزان، قال(10): «بعد الفراغ من تتبع بحور الشعر النبطية ورصدها أزعم أنني ذكرت البحور التي جاءت في الشعر النبطي، ولا أزعم أنني أحطت بكل أوزان البحر الواحد، لأنني لا أعتمد إلا المشهور الذي له شواهد، أما الشاذ والمتكلف فلا أذكره؛ لأن العبرة بالشيوع والكثرة. وإذا وجد وزن من الأوزان لم أذكره فبالإمكان رده إلى أصله في بحور الخليل، وإن اختلف عنه قليلًا فيرد إلى الأقرب إليه وبما تقبله تفعيلاته من تغيير، بالتلطف في التخريج. وقد عرفت من خلال قراءتك هذا الكتاب الطريقة العلمية الصحيحة في ذلك». قلت: وههنا عدةلاحظات، منها أن قوله (أزعم أنني ذكرت البحور التي جاءت في الشعر النبطي) فيه غمط لجهود من حرروها - كلها أو بعضها - قبله، مثل العلامة أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، الذي تحدث في الأوزان والألحان أحاديث كثيرة. وكذلك الباحث الأستاذ إبراهيم الخالدي في كتابه (طواريق النبط) وغيرهما. كما أن حديثه في مقدمة الكتاب ومتنه يوحي للقارئ بأنه أول من افترع هذا المجال، وخاض غمار هذا المحيط! وليس الأمر كذلك فقد سبقه كثيرون، منهم من ذكرناهم. لكنه تجاهل ذكرهم، وسكت عن الإشادة بفضل سبق مؤلفاتهم، ونقدها وبيان ما فيها من أخطاء أو قصور يبرر تأليفه الكتاب، ولا بد أنه اطلع عليها أو على بعضها واستفاد منها، وخصوصًا كتاب (طواريق النبط). وهذا خلل علمي ومنهجي كبير يؤخذ على مؤلف يحمل درجةً علمية! فإن لم يكن اطلع عليها فالمصيبة أعظم وأطم! أما قوله: (وإذا وجد وزن من الأوزان لم أذكره فبالإمكان رده إلى أصله في بحور الخليل، وإن اختلف عنه قليلًا فيرد إلى الأقرب إليه وبما تقبله تفعيلاته من تغيير)، فلا يسد النقص، ولا يعفيه من عدم تناول (الطروق الطويلة العسيرة) التي نظم عليها فحول الشعراء في الحجاز ونجد وغيرهما، أمثال بديوي الوقداني ومخلد القثامي وابن دويرج وابن شريم ولويحان وأحمد الناصر وخلف الهذال وغيرهم. ولا يعفيه أيضًا من تناول ما ابتكره من بعدهم من الأوزان، من كبار الشعراء المتأخرين وخصوصًا شعراء المحاورة. أما الملاحظات على محتوى الكتاب فأهمها أن المؤلف يرى إخضاع (الشعر النبطي) لعلم (العروض)، إخضاعًا تامًا أو شبه تام، قال في المقدمة(11): «رأيت أنه من المهم عدم فصل أوزان الشعر النبطي عن أوزان الشعر الفصيح؛ لأن الشعر النبطي جزء من الشعر الفصيح وامتداد له، وما زال قائمًا على بحوره ومتكئًا على قواعد عروضه وقوافيه، ولم يختلف اختلافًا يسوغ عزل أوزانه وقوافيه في مؤلف مستقل منسلخ عن القواعد المحكمة التي تركها لنا علماؤنا القدماء، ولن يستطيع أحد أن يأتي بشيء يغني عنها أو يبلغ ما فيها من الإحكام والإتقان». قلت: والأحكام التي أطلقها المؤلف في هذا المقطع، تخالف الواقع والمنطق والعقل أيضًا! فقوله: (لأن الشعر النبطي جزء من الشعر الفصيح) غير صحيح، ولم يقل به أحد قبله، فكيف يكون جزءًا منه وهما مختلفان في اللغة؟ وقوله: (وما زال قائمًا على بحوره ومتكئًا على قواعد عروضه وقوافيه، ولم يختلف اختلافًا يسوغ عزل أوزانه وقوافيه في مؤلف مستقل منسلخ عن القواعد المحكمة التي تركها لنا علماؤنا القدماء) أمران ينفيهما الواقع وسيتبين مما سنعرضه بعد قليل شيء من هذا الاختلاف الذي ينفيه. والعلماء القدماء الذين وضعوا تلك (القواعد المحكمة) إنما وضعوها للشعر الفصيح لا للشعر النبطي. وأما قوله (ولن يستطيع أحد أن يأتي بشيء يغني عنها أو يبلغ ما فيها من الإحكام والإتقان) فعبارة متهورة! فالنفي بـ(لن) يعني النفي الكامل أي التأبيد و(الاستحالة)، والفعل (يأتي) بعدها مضارع يفيد المستقبل، فهل اطلع المؤلف على الغيب حتى يقول هذا! إن إخضاع الشعر النبطي لعلمي (العروض والقافية)، إخضاعًا تامًا أو شبه تام لا يكون أبدًا، فالشعر النبطي - وإن سلمنا بأنه الامتداد العامي للشعر الفصيح - له خصوصيته فيما يخص الزحافات والعلل، وفيما يخص الأوزان والقوافي. ويقول المؤلف أيضًا(12): «وأنت إذا علمت هذه القاعدة في تخريج الأوزان ستتيقن أن الابتكار في أوزان الشعر يكاد يكون معدومًا، وأن أكثر التجديد تقبله البحور الخليلية بزيادة أو نقص. وقد يبتكر بعضهم وزنًا لا عهد للعروضيين به، ولكن لن يحمد صنيعه إلا إذا كان إيقاعه جيدًا، وتقبلته الآذان بالاستحسان، وكتب الله له حياةً في أفواه الشعراء، أما إذا مات ساعة ولادته فهذا عبث. وقد كان بعض العلماء يرفض التجديد في الأوزان، منهم على سبيل المثال الأخفش المتوفى سنة 215هـ، ومنهم أبو إسحاق الزجاج المتوفى سنة 311هـ، الذي يقول: اعلم أن ما وافق أشعار العرب فهو شعر، وما خالفه فليس بشعر، وإن قام ذلك وزنًا من الأوزان في نفوس أقوام...»ا.هـ. قلت: وكلام المؤلف هنا ينقض آخره أوله، فهو يقول عن ابتكار الأوزان إنه (يكاد يكون معدومًا) ثم يقر بأنه (قد يبتكر بعضهم وزنًا لا عهد للعروضيين به) وأن هذا المبتكر قد يكون (إيقاعه جيدًا، فتقبله الآذان بالاستحسان)! أما كلام الزجاج هذا فخاص بالشعر العربي الفصيح، ولا يمكن تطبيقه على الشعر النبطي. وأما وصف ما خرج من الشعر عن أوزان الخليل بأنه ليس شعرًا، أو هو شعر عند قائله وحده كما يقول الزجاج في بقية كلامه الذي نقله المؤلف، فإنما هو حكم خاص بالشعر الفصيح، وهو رأي من آراء، ويرفضه الشعر النبطي، فضلًا عن أن المسألة نسبية تقودنا إلى جدلية (معنى الشعر)! وهكذا فإن الأحكام القطعية لا مكان لها في مجال آفاقه مفتوحة على التطوير والتجديد والابتكار كـ(الشعر) وعلومه، فضلًا عن انفتاح محتواه على الخيال الفسيح. ومن هنا تأتي أهمية مراعاة الدقة في التعبير واختيار الألفاظ. ثم إن (التسليم المطلق) أو شبه المطلق برد كل أوزان الشعر النبطي إلى أوزان الخليل، ورفض ما ترفضه منها ويرفضه علماء العروض، دون مراعاة لخصوصيته، هو كـ(الرفض المطلق) سواءً بسواء، نراهما من التعسف والتكلف، ومن تحميل الأمور ما لا تحتمل، فضلًا عن أنه لم يقل به - فيما نعلم - أحد من قبل، ممن يوقن بصلة الشعر النبطي بالفصيح. فليست كل أوزان الشعر النبطي تجري على أوزان الخليل. وليست كلها تلتزم بنفس (الأعاريض والأضرب) في بحور الفصيح، وليست كلها يجري عليها ما يجري على أوزان الفصيح من (الزحاف والعلة). والبحور الطويلة العسيرة ليست كلها شاذةً ولا متكلفة، بل يقاس عليها، لكنها صعبة عويص سلمها، فلا يستطيعها إلا بعض الشعراء الملهمين وهم قلة قالة. وما ذكره المؤلف فيما يخص التجديد في الشعر النبطي بأنه (يكاد يكون معدومًا) إنما هو رأي شخصي، وهو رأي من آراء أيضًا. كما ذكر المؤلف قبل هذا بقليل ما أسماه (الطريقة العلمية لتخريج أوزان القصائد في الشعر النبطي)، وذكر ثلاث طرائق، يعنينا منها هنا الطريقة الثالثة، وهي قوله(13): «أن يتنازع الوزن النبطي بحران خليليان فيقبل كل بحر منهما هذا الوزن بزيادة أو نقص عليهما، وهنا يحمل الوزن النبطي على البحر الذي يقبله بتغيير أقل كما سترى في تخريجنا للمسحوب وبعض أشكال الهلالي» ا.هـ. قلت: وهذا التنازع الذي يتحدث عنه المؤلف يقصد به التنازع اليسير في النسبة إلى البحور السهلة الواضحة، كالخلاف المفتعل في أصل البحر (المسحوب): هل هو مأخوذ من البحر (الهلالي) أو من (السريع)، وهو خلاف شكلي، والجهل به لا يضر. أما (التنازع الشائك) فهو في مجيء أول (الشطر على بحر وآخره على آخر)، وهذا موجود في الأوزان الطويلة (المعوسرة). وإذا كنا نختلف مع المؤلف في موضوع (الابتكار في أوزان الشعر) فإننا نختلف أيضًا مع الأستاذ إبراهيم الخالدي الذي قال قبله (14): «والحق أن تاريخ الشعر العربي بكافة لهجاته وأنواعه أثبت أن الحديث عن اختراع البحور ضرب من الخيال... وبالتالي فإن كل ما يعرف على أنه (اختراع بحور) هو مجرد إبداع تلحيني، يتكئ على فهم موسيقي جيد لتراكيب اللغة». وأقول: أما أن ابتكار البحور يكاد يكون معدومًا كما يقول الدكتور عبدالله غليس، أو هو ضرب من الخيال كما يقول الأستاذ إبراهيم الخالدي، فدعوى لا تستند إلى برهان، لا ساطع ولا باهت أيضًا. والتاريخ لم يثبت هذا - كما يقرر الخالدي - فيما يخص الشعر النبطي تحديدًا، بل أثبت عكسه، فقد اخترعت فيه أوزان جديدة، لكنه لم يرها أوزانًا بل عدها ألحانًا وهنا يكمن الداء، والاختلاف في نسبتها إلى الأوزان لا يقبل وجهات النظر إلا إذا صح - على سبيل الجدل -أن يقال: إن الصخور نوع من الخشب! والإبداع التلحيني الذي يذكره إنما يكون تنوعه وتعدده في وزن واحد لا في أوزان مختلفة، وسيأتي بيان هذا. أما الحكم باستحالة الابتكار في الأوزان فمن الرجم بالغيب! و(التجديد والابتكار) في أوزان الشعر إنما يكون في إعادة تركيب التفعيلات وترتيبها بصور لم ترد في بحور الخليل ودوائره، باتساق موسيقي منضبط، لا باختراع تفعيلات جديدة - وفق لازم كلام الخالدي - ولا بابتكار أنماط شعرية جديدة. وبما أن التفعيلات هي (خوارزميات الشعر) فلا شيء يستعصي على قرائح الشعراء في ابتكار أوزان (بحور) جديدة من خلال إعادة تشكيلها وترتيبها، وهذا يتم بالتغني والترنم باللحن أولا ثم تركيب الشعر عليه. و(الابتكار) في الشعر النبطي تحقق في شعر القلطة وحلبات (المحاورة)، وهو بيئة تفسح المجال للابتكار، وتساعد على التجديد في الأوزان وغيرها، والتحدي في الحلبات يولد العجائب والخوارق! وهكذا فإن ابتكار الأوزان ناتج طبيعي لابتكار الألحان، ولم يقل أحد - ولا يجرؤ على أن يقول - إن التجديد في الألحان (يكاد يكون معدومًا) أو أنه (ضرب من الخيال)، فنهر الألحان متدفق لا يتوقف أبدًا. ورفض الخروج على أوزان الخليل لا يعني بالضرورة استحالته. وقضية (التجديد في الشعر) ومنه التجديد في الأوزان، من أهم قضايا النقد العربي الكبرى، التي تتجدد في كل زمان، وقد جدد شعراء الفصحى في الأوزان والبحور فنظموا على البحور المهملة التي لها أصل في الدوائر العروضية، لكن هذا لم يستمر، لأن الذائقة العربية مبرمجة على موسيقا أوزان الشعر الجاهلي فلا تكاد تسيغ غيرها ولو كان منضبطًا موسيقيًا. كما جددوا في شكل الشعر ومعانيه وصوره وأساليبه. وحدد الخالدي(15) ما سماه (أدوات ابتكار الألحان الجديدة)، وهي المجالات المرصودة في هذا المجال، فذكر منها: التكرار، والقلب، والمزج، والمد والإنقاص (الترفيل والحذف). وأظن أن هذا التحديد مبني على (مسح علمي)، فهو يكاد يكون شاملًا للمجالات التي ينحصر الابتكار فيها. أما الابتكار بـ(التكرار) فنوافقه الرأي فيه على أنه ليس ابتكارًا بل تكرار. وهذا النوع يأتي في البحور ذات التفعيلة الواحدة. فبحر (الهزج) على سبيل المثال، لم يستعمل في الفصيح إلا مجزوءًا، أي على (مفاعيلن مفاعيلن) في كل شطر، وجاء في الشعر النبطي القديم مجزوءًا كذلك كقول محمد العبدالله القاضي في قصيدة مروبعة: غريم بالهوى روحي على طفل قطف روحي عبير المسك خناته وريح فاح به روحي كما جاء على ثلاث تفعيلات في كل شطر، كقول العطاوي ابن سليم، وهو شاعر حجازي قديم في وقعة كانت بينهم وبين زبيد من حرب(16): أنا اللي هاضني واطرى على بالي نهار في مقارن مسر يطرونه وأشهره ما جاء على أربع تفعيلات في الشطر، وهو المعروف بـ(اللحن الشيباني) أو (اللحن اللويحاني)، قال بديوي الوقداني (ت 1296هـ): على راسي عصايب من عرب واشراف شجعاني مقيمين الشريعه والخلايق ما ظلمناها ثم جاء المتأخرون فنظموا فيه على خمس تفعيلات في الشطر الواحد، وعلى ست، وسبع .. وربما زادوا على ذلك(17). والزيادة في تفعيلات البحور ذات التفعيلة الواحدة أيسر من غيرها، ونظن أن (بحر الهزج) في الشعر النبطي هو أسهل البحور وأيسرها على الشاعر المبتدئ، خاصةً (اللحن الشيباني) ذا التفعيلات الأربع، ونرى أنه هو (حمار الشعراء) في الشعر النبطي وليس (المسحوب) كما يقول أبو عبدالرحمن ابن عقيل(18). أما (الابتكار بالقلب) فليس ابتكارًا أيضًا، بل استعمال للمهمل من البحور في دوائر الخليل العروضية من الأوزان غير المعروفة التي يمكن النظم عليها بناءً على ما تحتمله الأسباب والأوتاد المتوالية عندما تغير نقطة البدء بها، ونراه في الشعر النبطي أكثر ما يكون في بحري (الممتد) و(المستطيل). ** ** ** المصادر (1) (الأدب الشعبي في جزيرة العرب) تأليف عبدالله ابن خميس. ط2، 1402هـ 1982م ص86. (2) (الشعر النبطي أوزان الشعر العامي) ص25. (3) (الشعر عند البدو) شفيق الكمالي، ط1، بغداد 1964م، ص156. (4) يقول إبراهيم الخالدي في مقدمة كتابه (طواريق النبط ص12): «إن الهدف لهذه الدراسة هو إرجاع طواريق النبط إلى أصولها العروضية، وتصنيفها على هذا الأساس بعيدًا عن التصنيفات السابقة التي كانت تجعل من موضوع بعض القصائد أساسًا لها كما كان يحدث في الهجينيات والسامريات والعرضات أو حسب شكلها الفني كالمروبع والجناس». (5) (الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية) دراسة علمية تأليف الدكتور غسان حسن أحمد الحسن، الطبعة الأولى - القسم الأول، 1990م ص454/ 1. (6) ما عدا بحور الشعر الفصيح المستعملة والمهملة فعددها مجتمعة هو 22 بحرًا: (16+6=22). (7) انظر: السابق ص549/1. (8) (الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص) سعد العبدالله الصويان، ط1، 1421هـ، ص175. (9) قال (طواريق النبط ص12): «والبحث في العلاقة بين أوزان القصيدة العامية وعروض الخليل أمر تم التطرق إليه في كثير من الدراسات والكتب والمقالات لمن هم أقدم وأكثر خبرة مني في هذا المجال كعبدالله ابن خميس وأبي عبدالرحمن الظاهري ود. غسان الحسن، وطلال السعيد وغيرهم». (10) المرجع الوافي في الأوزان والقوافي للشعر الفصيح والنبطي: تأليف د. عبدالله غليس، ط2، 1445هـ 2023م ص187. (11) المرجع الوافي ص5. (12) المرجع الوافي ص41. (13) المرجع الوافي في الأوزان والقوافي ص40. (14) طواريق النبط ص169. (15) طواريق النبط ص173. (16) (انظر الأدب الشعبي في الحجاز) تأليف عاتق بن غيث البلادي، دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1402هـ 1982م ص19. وذكر المؤلف أن (مسر): واد جنوب شرقي رابغ. (17) انظر: (طواريق النبط) ص53 فما بعدها. (18) قال أبو عبدالرحمن بن عقيل (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي ص143): «وجمهرة الشعر العامي ترد على هذا البحر (المسحوب) ولهذا أسميه حمار الشعر العامي». قلت: والعبرة في الوصف ليست بالكثرة بل بالسهولة، فحمار الشعر في الفصيح وهو (الرجز) وصف بهذا لسهولة النظم عليه لا لكثرته. والسهولة أكثر ما تكون في الأوزان ذات التفعيلة الواحدة كما ذكرنا في المتن. والرجز والهزج من ذوي التفعيلة الواحدة في حين أن المسحوب من ذوي التفعيلتين.
مشاركة :