إيران... سباق بين التّصعيد والتّهدئة

  • 6/29/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

وأخيراً، عادت إيران إلى طاولة المفاوضات حول إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، بعد توقف دام أشهراً عدة، استغلتها طهران من أجل أن تسرع الخطى في برنامجها النووي، فرفعت نسبة تخصيب اليورانيوم المحدد سقفه في الاتفاق للأغراض المدنية بـ3,6 بالمئة إلى 60 بالمئة، وفي بعض الأحيان، حسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى مستوى الاستخدامات العسكرية، بما يصل إلى 90 بالمئة. وقد ذهبت إيران إلى أبعد. ففيما كانت تفرض شروطاً من خارج الاتفاق النووي، من قبيل اشتراط رفع "الحرس الثوري" عن لوائح الإرهاب الأميركية، والإصرار على أن تلتزم الإدارة بضمان ألا تأتي إدارة أخرى في ما بعد وتتنصل من الاتفاق، وطلب ضمانات تشريعية تلغي العقوبات، بما يمنع أي إدارة مقبلة من إعادة فرضها، في مقابل التوقيع على الاتفاق، كانت إيران تخترق، بغضّ نظر من إدارة الرئيس جو بايدن، العقوبات على قطاع النفط، فعادت مستويات تصدير النفط الإيراني تقريباً إلى مستوياتها ما قبل 2018 عند انسحاب الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق. كما أنها لم تسلّم الوكالة الدولية للطاقة الذرية شرائط الفيديو العائدة إلى كاميرات المراقبة التابعة للوكالة المثبتة داخل المنشآت النووية المعلنة. وأكثر من ذلك، عمدت طهران إلى التحايل على التقارير التي أصدرتها الوكالة، تقول فيها إنها استطاعت أن تعثر على آثار يورانيوم مخصب في ثلاثة مواقع سرية لم تعلن عنها السلطات الإيرانية. وأخيراً وليس آخراً، رد إيران على موقف مجلس محافظي الوكالة في الشهر الفائت الذي انتقدها بشدة لمواصلتها خرق التزاماتها في الاتفاق النووي بتعطيل عدد كبير من كاميرات المراقبة التابعة للوكالة في المنشآت النووية الرسمية، وتعليق كل عمليات التفتيش المباغت التي تنص عليها بنود الاتفاق النووي. عادت إيران إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة. الأوروبيون هم الطرف الساعي إلى إحداث اختراق جوهري. فقد حصل الاتفاق إثر زيارة مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لطهران خلال الأسبوع الماضي. لكن الحذر لم يتبدد، ولذلك اختيرت العاصمة القطرية الدوحة لاستضافة المفاوضات الجديدة التي يمكن أن تحدث اختراقاً، ولكن لا شيء يضمن ذلك، لا سيما أن ثمة قناعة في العديد من العواصم الغربية بأن طهران لا تسعى للعودة إلى الاتفاق، إنما هي تناور من أجل كسب الوقت، فيما تواصل تسريع الخطى في برنامجها النووي العسكري السري الذي لم يتوقف يوماً، على الرغم من كل الجهود التي قامت بها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل منع إيران من تحقيق تقدم على مستوى عسكرة البرنامج النووي. ومع ذلك فإن الإسرائيليين مقتنعون ومعهم الدول الخليجية الرئيسية، بأن إيران عسكرت البرنامج منذ أمد بعيد. أما الاستهدافات الاستخبارية الغربية والإسرائيلية فلم تقدر سوى على إبطاء عسكرة البرنامج. ولعل الحد الفاصل بين البرنامج النووي الموجه إلى الأغراض المدنية والبرنامج النووي للأغراض العسكرية غير واضح البتة في إيران. وما من جهة دولية مقتنعة بأن إيران تسعى لامتلاك التقنية النووية للأغراض المدنية وحدها. وأيضاً ما من جهة دولية تصدّق قصة الفتوى الصادرة عن المرشد علي خامنئي التي يحرّم فيها استخدام السلاح النووي. لكن الأهم هنا عودة طهران إلى طاولة المفاوضات التي تسابق مناخات تصعيدية بدأت ترتسم في الأفق، فالإدارة الأميركية التي اعتُبرت منذ مجيء الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، أنها تهرول خلف اتفاق نووي مع إيران بأي ثمن، بدأت في الأشهر القليلة الأخيرة تنفذ انعطافة واضحة من خلال إعادة التشدد في تطبيق العقوبات على إيران، لا سيما في ما يتعلق بصادراتها النفطية التي ارتفعت كثيراً بفعل التراخي الأميركي، والطلب الصيني الكبير بعد إعادة فتح البلاد إثر أشهر طويلة من الإغلاقات نتيجة جائحة كورونا. والمناخات التصعيدية تزامنت مع إعادة ترتيب العلاقات السيئة منذ مطلع 2012 بين واشنطن وعدد من الحلفاء التاريخيين لها في المنطقة، بدءاً من المملكة العربية السعودية، مروراً بمصر، وصولاً إلى إسرائيل نفسها. جانب أساسي من أسباب تردي علاقات هذه الدول الحليفة لأميركا يعود إلى سياسة الهرولة نحو إيران التي غرقت فيها إدارة الرئيس جو بايدن منذ الأيام الأولى لتسلمه سلطاته الرئاسية. وترتيب العلاقات اليوم يمر عبر بوابتين رئيسيتين في المنطقة هما تل أبيب والرياض التي ناصب بايدن قيادتها العداء حتى قبل أن يصل إلى البيت الأبيض، لكن الوقائع الجيوسياسية أدت في النهاية إلى اتخاذ واشنطن قراراً بالعودة إلى "دفاترها القديمة"، وخصوصاً بعد شن روسيا حربها على أوكرانيا. وما قمة جدة المنتظرة في منتصف الشهر المقبل التي ستجمع الرئيس الأميركي تحت قبة السعودية بقادة مجلس التعاون لدول الخليج، ومصر، والأردن، والعراق، سوى الترجمة العملية للانعطافة الأميركية. إيران العائدة اليوم إلى مفاوضات إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 ربما تقرأ معنى إعادة النصاب إلى العلاقات الأميركية – العربية، والحديث المتكرر عن العمل على إنشاء "حلف ناتو" شرق أوسطي ويضم إسرائيل بالشراكة مع الولايات المتحدة، حيث سيخلق تكتلاً إقليمياً – دولياً كبيراً ووازناً في مواجهتها وحدها دون حلفاء من وزن يعادل الدول المزمع انضمامها إلى الحلف الدفاعي. ولا ننسى أن إيران تراقب جيداً المشهد الإسرائيلي – الأميركي على مستوى التعاون في الحرب الاستخباراتية ضد المشروع النووي الإيراني الذي يشن على أرضها، ويذهب ضحيتها تكراراً علماء في الحقل النووي، فضلاً عن المنشآت المستهدفة دورياً. كل هذه العناصر قد تكون دفعت طهران للعودة إلى المناورة التفاوضية في محاولة للجم التوجه العسكري الذي يلوح في أفق مواجهة برنامجها النووي العسكري بالقوة، في اللحظة التي يصبح من المؤكد أنها شارفت حقيقة على إنتاج أول قنبلة نووية. كل المؤشرات تدل على أن ثمة سباقاً بين التصعيد والتهدئة. وهنا حاجة طهران إلى شراء مزيد من الوقت في سبيل الوصول إلى الهدف الأبعد: أن تصبح إيران أخيراً... قوة نووية.

مشاركة :