مستعينًا بالأنثروبيولوجيا الفنية في إعادة تصوير الملامح المرتكزة على مجموعة من السمات العامة والخاصة، أعاد الفنان، ورئيس جمعية البحرين للفن المعاصر، المدير العام لمؤسسة مرسم زيوس للفنون، خليل المدهون، تصوير الصحابي والشاعر البحريني بشر بن عمرو بن حنش، أو كما يُعرف بالجارود العبدي (ت. 641 م)، وذلك ضمن مشاركته في «سمبوزيوم روسيا الدولي لنحت الرخام»، (24 مايو وحتى 4 يونيو)، ليوظف هذه الشخصية الإسلامية التاريخية في عمل نحتي تبلغ أبعاده 1.6 متر ارتفاعًا، ومترًا عرضًا وعمقًا. وجاء اختيار المدهون لهذه الشخصية نظرًا لمكانتها التاريخية في صدر الإسلام، فقد كان العبدي صحابيًا ومحدثًا شارك في الفتوحات الإسلامية، وكان على رأس قبيلة عبد القيس. ويعلل المدهون اختيار هذه الشخصية لتقديمها في محفل دولي، بالضرورة للفت النظر للشخصيات التي تبرز ثقافة المنطقة، مضيفًا «إن تقديم هذه الشخصيات إلى الجمهور العام، بمنزلة إشارة تعرف الناس بهذه الشخصيات وأدوارها التاريخية في تاريخنا وثقافتنا، كما تؤكد فخرنا واعتزازنا بالشخوص التي أسهمت في صناعة وبناء ماضينا وحاضرنا»، مبينًا أن منحوتة العبدي «جاءت ضمن مجموعة أعمال نحتية لشخوص أعمل على تخليدها، وتسليط الضوء عليها من خلال أعمالي الفنية». وحول المنهجية التي اتبعها المدهون في استخلاص ملامح هذه الشخصية، بيّن أنه ارتكن لمنهجية (الاستلهام من السمات الأنثروبولوجية)، و«هي منهجية قائمة على توظيف الأنثروبولوجيا الفنية، التي تبحث في الملامح والسمات، لاستخلاص ملامح الشخوص التي تتشكل منها المنحوتات، مع الاستعانة بالجوانب المدونة في التاريخ، والتي غالبًا ما تقدم توصيفًا خاصًا، يمكن من خلال توليفه مع السمات العامة أن ينتج ملامحًا ذات خصوصية للشخوص التاريخية». ويوضح المدهون «بانعدام التصوير، والرسوم المرسومة في تلك الأزمنة لتلك الشخصيات، فإن الحصول على الملامح الدقيقة أمر مستحيل، وعليه فإن الفنان يلجأ لما وثق في التاريخ من مواصفات؛ كطول الوجه، وعرضه، ولونه، وبعض ملامحه، إلى جانب السمات العامة التي تميز الأعراق ليستخلص تصورًا يرتكز على الخيال والاستعارة، لكنه يسعى لتقديم مقاربات». لكن هل بمقدور الفنان من خلال توظيف الأنثروبولوجية الفنية أن يصل لمقاربات وتوصيفات لهذه الشخوص؟ يبيّن المدهون أن الأنثروبولوجية الفنية «تتيح متسعًا للفنان ليتصرف ويتفلسف وفقًا لمعطياتها في تصوير الشخوص»، وبذلك لا يدعي الفنان تقديم صورة مطابقة للأصل، إنما «هي هيئة فنية رمزية ترتكز على الملامح العامة التي يستند عليها الفنان للوصول إلى تصوير خاص»، موضحًا «إن الوجه العربي يمتاز بسمات وملامح تميزه عن غيره من الأعراق»، وهي ركيزة يرتكز عليها المدهون في وضع التصورات لمنحوتته، وإلى جانب السمات العربية، يلفت المدهون إلى سمات بحرينية خاصة، مكنته دراستها من تعزيز تصوراته التي أعاد على أساسها وجه الجارود إلى الحياة في منحوتته، بالإضافة لما قدمته المراجع التاريخية من توصيف لملامح هذا الرجل. يبقى أن هذه الإعادة هي إعادة تخمينية كما يصفها المدهون، يترك فيها الحكم «لتأمل المتلقي والنقاد». إلى جانب الملامح، سعى المدهون لإيجاد خصوصية لمنحوتته، من خلال الملابس التي استوحاها من ملابس تلك الأزمنة، إلى جانب تطعيم المنحوتة بالخط العربي، إذ «استخدمت الخط الكوفي القديم، للإشارة للمرحلة التي تواجد فيها الصحابي العبدي»، لافتًا إلى أن إعادة بناء وتصوير الشخوص التاريخية، ليست بالمسألة الجديدة، فهي مقدمة في المسرح، والدراما، والفنون التشكيلية الأخرى، إلى جانب فن النحت. ويؤكد المدهون أهمية هذا الاشتغال في إعادة تصوير الشخوص التاريخية عبر فن النحت، موضحًا أن هذا الفن يُعد أبلغ وأسرع وسيلة معرفية لإبراز ثقافة المجتمع، منذ قديم الزمان، لذا تعمد مختلف دول العالم، بما فيها العربية والإسلامية، إلى تمثيل شخصياتها الوطنية، وأبطالها، وعلمائها في الميادين العامة والساحات، افتخارًا بمنجزهم، وحفظًا لتاريخهم، وإسهامًا في توعية المجتمع ورقيه جماليًا وتثقيفيًا. حاثًا على أن تنحو مملكة البحرين هذا المنحى، خاصة بالنظر لوجود كفاءات من النحاتين والفنانين، فـ«شوارعنا وسوحلنا العامة بحاجة لمثل هذه المنحوتات، لتعطي جانبًا جماليًا، ولتخلد ذكرى الشخصيات البحرينية الوطنية، التي أسهمت في ارتقاء هذا المجتمع»، ويضيف المدهون: «إن وجود هذه المنحوتات يبقي أثر الشخصيات التي تجسدها باق للأجيال القادمة، ويفتح أفق التساؤل والمعرفة»، لافتًا إلى أن النحت لغة يسيرة القراءة، سهلة الفهم، جاذبة بجماليتها، ولافتة لمختلف الفئات. ولا بد أن نخطو خطوة نحو إشاعة هذا الجانب في بلادنا، وتأصيله ليكون جزءًا من ثقافة المجتمع.
مشاركة :