بقلم: جوزيف ستيجليتز { يبدو أن الولايات المتحدة قد دخلت حربًا باردة جديدة مع كل من الصين وروسيا. يبدو أيضا أن تصوير قادة الولايات المتحدة للمواجهة على أنها صراع ما بين الديمقراطية والاستبداد قد فشل أيضا. يظهر هذا النفاق الممزوج بالازدواجية أن الهيمنة الغربية على العالم بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية هي التي توجد اليوم على المحك وليست منظومة القيم. لذلك، فإن الكثير من الدول لم تعد تريد التحالف مع قوة عظمى، أي الولايات المتحددة الأمريكية، التي تعاني من الغموض الذي بات يلف مستقبل الأسس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تقوم عليها بلاد العم سام، التي تآكلت مكانتها في العالم. على مدى عقدين وبعد سقوط الستار الحديدي، كان من الواضح أن الولايات المتحدة كانت رقم واحد في العالم، ولكن بعد ذلك جاءت حروب مضللة كارثية في الشرق الأوسط ثم حدث الانهيار المالي المريع عام 2008، وتفاقم انعدام المساواة، واستشرى وباء المواد الأفيونية وظهرت أزمات أخرى بدا أنها تلقي بظلال من الشك على تفوق النموذج الاقتصادي الأمريكي. علاوة على ذلك، أظهر انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة الانقلاب في مبنى الكابيتول الأمريكي يوم 6 يناير 2020، والعديد من عمليات إطلاق النار الجماعية، وتنامي نفوذ الحزب الجمهوري المصمم على قمع الناخبين، وصعود طقوس المؤامرة مثل QAnon، هناك أكثر من أدلة كافية تشير إلى أن بعض جوانب الحياة السياسة والاجتماعية قد أصبحت عليلة. بالطبع، أمريكا لا تريد أن يُخلع عرشها، للتاريخ حكمه ومساره ومنطقه، إذ إن عديد الارهاصات تجعلنا نقول إنه من المحتم ببساطة أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة اقتصاديًا، بغض النظر عن المؤشر الرسمي الذي يستخدمه المرء - عدد سكان الصين أكبر أربع مرات من عدد سكان أمريكا؛ كما أن الاقتصاد الصيني ظل ينمو بمعدل أسرع ثلاث مرات لسنوات عديدة. في الواقع، لقد تجاوز الاقتصاد الصيني بالفعل اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث القوة الشرائية في عام 2015. رغم أن الصين لم تفعل أي شيء لإعلان نفسها كتهديد استراتيجي لأمريكا غير أن المؤشرات على ذلك باتت واضحة وجلية. ففي واشنطن، هناك إجماع من الحزبين على أن الصين يمكن أن تشكل تهديدًا استراتيجيًا، وأن أقل ما يجب على الولايات المتحدة فعله للتخفيف من المخاطر هو التوقف عن مساعدة الاقتصاد الصيني على النمو. وفقًا لوجهة النظر هذه، هناك ما يبرر اتخاذ إجراءات وقائية، حتى لو كان ذلك يعني انتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية التي لعبت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها دورا كبيرا في صياغتها والترويج لها بعد ذلك. انفتحت هذه الجبهة في الحرب الباردة الجديدة قبل وقت طويل من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. فقد حذر كبار المسؤولين الأمريكيين منذ ذلك الحين من أن الحرب يجب ألا تصرف الانتباه عن التهديد الحقيقي الطويل الأجل: أي القوة الصينية الصاعدة بقوة. بالنظر إلى أن الاقتصاد الروسي يقارب نفس حجم الاقتصاد الإسباني، فإن شراكتها «بلا حدود» مع الصين لا يبدو أنها ذات أهمية اقتصادية (على الرغم من أن استعدادها للانخراط في أنشطة عدائية حول العالم قد يكون مفيدًا لجارتها الجنوبية الأكبر والأقوى اقتصاديا). لكن البلد الذي يعيش في «حرب» يحتاج إلى استراتيجية، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تكسب بمفردها منافسة قوة عظمى جديدة بل إنها تحتاج إلى أصدقاء وحلفاء، علما بأن الحلفاء الطبيعيين للولايات المتحدة الأمريكية هم أوروبا والديمقراطيات المتقدمة الأخرى حول العالم. لكن الرئيس السابق دونالد ترامب فعل كل ما في وسعه لعزل تلك البلدان، وقدم الجمهوريون - الذين مازالوا مدينين له بالكامل - سببًا وجيهًا للتساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة شريكًا موثوقًا به. علاوة على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تكسب قلوب وعقول مليارات الأشخاص في البلدان النامية والأسواق الناشئة في العالم - ليس فقط للحصول على أرقام إلى جانبها، ولكن أيضًا لتأمين الوصول إلى الموارد الحيوية. في سعيها لكسب ود العالم، يتعين على الولايات المتحدة تعويض الكثير من الأوراق التي فقدتها. فتاريخ الولايات المتحدة الطويل في استغلال البلدان والشعوب الأخرى لا يساعدها على تحقيق ذلك، ولا عنصريتها الراسخة والمتجذرة ولا صلفها - وهي العوامل التي سعى دونالد ترامب للعزف على أوتارها. في الآونة الأخيرة، أسهم صانعو السياسة في الولايات المتحدة في «الفصل العنصري للقاح» العالمي، حيث حصلت الدول الغنية على كل ما تحتاج إليه من جرعات بينما تُرك الناس في البلدان الفقيرة لمصيرهم. في غضون ذلك، جعل خصوم أمريكا الجدد في الحرب الباردة لقاحاتهم متاحة بسهولة للآخرين بسعر التكلفة أو بأقل من ذلك، مع مساعدة البلدان أيضًا على تطوير مرافق إنتاج اللقاحات الخاصة بها. تتسع فجوة المصداقية عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، والذي يؤثر بشكل غير متناسب على أولئك الموجودين في جنوب الكرة الأرضية والذين لديهم أقل قدرة على التأقلم. وفي حين أن الأسواق الناشئة الرئيسية أصبحت المصادر الرئيسية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري اليوم، لا تزال الانبعاثات التراكمية للولايات المتحدة هي الأكبر حتى الآن في العالم. تواصل البلدان المتقدمة إضافة المزيد من الانبعاثات الملوثة للبيئة، والأسوأ من ذلك أنها لم تفِ حتى بوعودها الضئيلة لمساعدة البلدان الفقيرة على إدارة آثار أزمة المناخ التي تسبب فيها العالم الغني. بدلاً من ذلك، تسهم البنوك الأمريكية في أزمات الديون التي تلوح في الأفق في العديد من البلدان، وغالبًا ما تكشف عن لامبالاة كاملة بالمعاناة التي تنتج عنها. تتفوق أوروبا وأمريكا في إلقاء المحاضرات على الآخرين حول ما هو صحيح أخلاقياً ومعقول اقتصاديًا، لكن الرسالة التي تظهر عادة -كما يوضح استمرار الإعانات الزراعية الأمريكية والأوروبية- هي «افعل ما أقوله، وليس ما أفعله». بعد سنوات ترامب على وجه الخصوص، لم تعد أمريكا تحتفظ بأي مطالبة أخلاقية، ولا تتمتع بالمصداقية لتقديم المشورة. لم يتم أبدًا تبني الليبرالية الجديدة والاقتصاد المتدفق إلى أسفل على نطاق واسع في جنوب العالم، وهي لم تعد تلقى الرواج في مناطق عديدة من العالم. في الوقت نفسه، تفوقت الصين ليس في إلقاء المحاضرات، ولكن في تزويد البلدان الفقيرة ببنية تحتية صلبة. نعم، غالبًا ما تكون هذه البلدان مثقلة بالديون؛ ولكن، نظرًا لسلوك البنوك الغربية الخاصة بصفتها دائنة في العالم النامي، فإن الولايات المتحدة وغيرها ليست في وضع يمكنها من توجيه أصابع الاتهام. يمكنني المضي قدمًا، ولكن يجب أن تكون النقطة واضحة: إذا كانت الولايات المتحدة ستشرع في حرب باردة جديدة، فقد كان من الأفضل لها أن تفهم ما الذي يتطلبه الفوز وتحقيق الانتصار في مثل هذه المواجهات. فالانتصار يتحقق في الحروب الباردة في النهاية بقوة الجذب والإقناع الناعمة. وللوصول إلى القمة، يجب أن نقنع بقية العالم بشراء ليس فقط منتجاتنا، ولكن أيضًا النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي نسوق له ونبيعه. قد تعرف الولايات المتحدة كيفية صنع أفضل القاذفات وأنظمة الصواريخ في العالم، لكن ذلك وحده لن يساعدها. بدلاً من ذلك، يجب أن نقدم مساعدة ملموسة للبلدان النامية والأسواق الناشئة، بدءًا من التنازل عن جميع حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بـجائحة كوفيد-19 حتى يتمكنوا من إنتاج اللقاحات والعلاجات بأنفسهم. وبنفس القدر من الأهمية، يجب على الغرب مرة أخرى أن يجعل أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية موضع حسد العالم. في الولايات المتحدة، يبدأ ذلك بالحد من عنف السلاح، وتحسين اللوائح البيئية، ومكافحة عدم المساواة والعنصرية، وحماية الحقوق الإنجابية للمرأة. إلى أن نثبت استحقاقنا للقيادة، لا يمكننا أن نتوقع من الآخرين أن يسيروا في ركابنا ويؤيدونا. { الكاتب أكاديمي من جامعة كولومبيا الأمريكية العريقة وفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد كومونز
مشاركة :