ملهي شراحيلي منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير، وحكومته، وتسنّم المجلس العسكري برئاسة وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف، مقاليد السلطة في 11 أبريل 2019، والسودان يتشظى، ولكن على مراحل، وكأن المحركون للقلاقل والمظاهرات، يأخذون بين فينة وأخرى استراحة، لا أعلم هل هي استراحة محارب، أم أنها مجرد تكتيكات، تسير وفق منهجيات وآليات، مرسومة مسبوقاً، ومعدّة منذ زمن، فما أن تهدأ الأوضاع، إلا وتعود أسوء مما كانت عليه، وفي كل مرة تأخذ شكلاً مختلفاً، ونمطاً مغايراً، بيد أنها في كل الأحوال، وعلى جميع الأشكال، تأخذ معها أرواحاً بريئة، وتنكأ جراحاً، لاتزال ندية.ولكي نفهم أكثر، مايجري في السودان، ونستكشف الوجهة التي يسير نحوها، فلابد أن نعود بالذاكرة إلى مرحلة سقوط البشير، وما قبلها!.إن التاريخ السياسي للسودان، في الخمسين سنة الماضية، لم يكن أحسن حالاً مما هو عليه الآن، فالإغتيلات والانقلابات بالعشرات، إن لم تكن بالمئات، وحتى بعد أن استقرت الأمور للبشير وزمرته، لم تجف ماقي حرائر السودان، على فلذات أكبادهن، وأشقائهن، ورجالهن الذي ذهبوا حطباً للحرب الجنوبية، التي انتهت بتشطير السودان. وبعد أن أصبح السودان، سودانان، جنوبي، وشمالي، لم يتغير المشهد كثيراً، وظلت الأقاليم في صدام فيما بينها تارةً، ومع الحكومة تارة أخرى، وفي ذلك الوقت كان السودان( وهو لايزال إلى الآن) يعاني من تداعيات العقوبات الاقتصادية الغربية، التي فرضها الغرب على نظام عمر البشير، لأسباب، بعضها منطقية، وأخرى تعسفية، وإن كان المجال هنا لايتسع للغوص في أسباب تلك العقوبات، بيد أنها كانت كابوساً، أرهق العباد، ودمّر البلاد. ومع أنني أعتقد أن الأمم والدول وحتى الأفراد، الذين دائماً يعزون فشلهم واخفاقاتهم لأسباب خارجية، هم في الحقيقة جزء من المشكلة، بل هم سببها وجذرها الأساسي، ولكن خوفهم من مواجهة مصيرهم، ونكرانهم لذواتهم يجعلهم يعلقون على الآخرين( الخارج) كل متاعبهم ومشاكلهم، وقد يكون النظام البشيري كذلك فعلاً، إلا أنه ليست السودان وحدها من تجرعت مرارة العقوبات الغربية، وليس حالها بأحسن حالاً من السودان، ولنا في دول أمريكا اللاتينية خير مثال.هذا جانب من الماضي الأليم الذي نكل بالسودان وأهله في زمن عمر البشير، واستمر معهم إلى يومنا هذا، وسوف يستمر لسنوات قادمة، وربما أجيالاً، إذا ما استمرت القيادة السودانية تسير على خطى أجدادها، في إدارة شؤون السودان.الجانب الآخر، موقع السودان.!لاسيما بعد التعافي الإثيوبي، وظهور سد النهضة، هذا الموقع للسودان، بين المطرقة المصرية، والسندان الإثيوبي، مع ضعف الإدارة في الخرطوم، جعله مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا هو قادر على الحياد، ولا يستطيع أن يعلن دعم إثيوبيا، ولا هو قادر على أن يعلن الوقوف التام مع مصر، وإن حاول أن يروج إعلامه أنه مع مصر قلبا وقالباً، إلا أنه على الأرض غير ذلك، ومن وجهة نظري الشخصية أن اصطفافه مع إثيوبيا أفضل له بكثير سياسيا واقتصاديًا واجتماعياً، وهذا بالطبع لايعني خروجه من عروبته، ولا يعني تنكره لمحيطه، وإنما من مصلحته أن ينحاز لما يخدم مصالحه.هذا الموقع للسودان، وفي ظل التخبط السياسي، والضبابية الإدارية، في الخرطوم، وما رافقها من انكماش غربي في القرن الإفريقي، والتمدد الصيني والروسي في المنطقة، جعل من السودان، وقبائله المتناثرة بين دول إفريقيا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فرصة لتصفية الحسابات. فالقبائل الإفريقية ومنها قبائل السودان، ولاؤها للقبيلة أكثر من ولائها للدولة!، وتجد القبيلة الواحدة لها فروع في مصر، وأخرى في تشاد، وثالثة في جبال الحبشة(إثيوبيا)، ورابعة في إفريقيا الوسطى، بالإضافة إلى القبائل العربية السودانية المنتشرة في إريتريا والصومال وجيبوتي وليبا. وأغلب هذه القبائل هم بدو رحّل لايعترفون إلا بحدود قبيلتهم، ولايرون ضيماً في أن يتخطون حدود الدول لنصرة بعضهم بعضاً.هذه العوامل وغيرها، لاسيما في ظل التضخيم الإعلامي، والتشرذم السياسي، جعل من أرض السودان مسرحاً مفتوحا لتصفية الحسابات القبلية، بالإضافة طبعاً إلى فلول النظام السابق، الذين يرون في خروجهم من السلطة عقوبة من الشعب، ولذلك لايجدون غضاضة في التنكيل بالشعب بكل الفرص المتاحة والأدوات الممكنة، متى ما سنحت لهم الفرصة.الجانب الأخير، من وجهة نظري، الذي أوصل السودان، إلى ماوصلت إليه الآن، أن السودان، بلد من بلدان العالم الحديث، وما يجري في أوكرانيا، يلقي بظلاله على الخرطوم، لاسيما وأن الملجأ الأخير كان للسودان، أبّان العقوبات الغربية، روسيا وأوكرانيا والصين، مع أن السودان بلد زراعي، وكان يلقب بسلة غذاء العرب، إلا أن الغذاء والزراعة يحتاج معدات ومبيدات وكلها كانت تأتي من روسيا أو من أوكرانيا بالتهريب من أوروبا.بإختصار إن مايجري في السودان، لايختلف كثيرا عما يجري في سيرلانكا، وسوف يتكرر في دول أخرى، لاسيما الدول ذات الارتباط الاقتصادي بروسيا وأوكرانيا، سواءً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وربما أن مايجري ليس سوى تمهيد للتخلص من الإلتزامات المادية لصندوق النقد الدولي، ومنظمات الأمم المتحدة، من قبل الحكومة السابقة، ورفض الحكومة الحالية الوفاء بالتزامات حكومة البشير، (أقول ربما) لأن هذا الاحتمال ضعيف ومستبعد، لاسيما في ظل الدعم السعودي والخليجي سياسيا واقتصاديًا.وبالجملة فالأسباب كثيرة، ومتنوعة، ومتشابكة، ومتداخلة بين السياسة والاقتصاد، ولكن العنصر الإجتماعي، والتكوين السكاني، يظل أهم العناصر التي يتلاعب بها القادة، وتحركها الأحزاب، وتمتطيها زعامات القبائل. هذه المقدمة المختصرة عن الحاصل في السودان، تسوقنا إلى أهم سؤال، وهو عنوان المقال : إلى أين يتجه السودان؟إن دولة السودان، وشعب السودان، أشهر من نار على علم، ولا يخفى على عربي، تاريخها العريق، ومجدها التليد، وحاضرها الفريد، رغم ماتعانيه من جراح، وما تكتمه من مآسي، وما تحاول أن تخفيه من آلام.ويكفيها فخراً أن أبناءها وبناتها، لاتخلوا منهم جامعة عريقة، سواءً في فضائها العربي، أو حتى على مستوى العالم، ناهيك عن شعرائها وأدبائها ومفكريها المتناثرون في شتّى بقاع الأرض. إن ماتمر به السودان اليوم، وما قد تمر به لاحقاً، لايعدو كونه مخاضاً عسيراً، لولادة فجرٍ جديد ترفل فيه بالرفاهية والإزدهار، وتعتلي فيه قمم الشموخ والعزة والمنعة، لا أقول هذا الكلام حباً فيها، ولا مجاملةً لأحبابي من بنيها، وإنما هذه هي حقيقة حياة الدول والأمم والشعوب، وهذا ما تعرفه البشرية منذ أن عرفت علم الإجتماع، وقد وصف ذلك ابن خلدون، في دورة حياة المجتمعات، إذ يقول:- الأوقات الصعبة تصنع رجالاً أقوياء.- الرجال الأقوياء يصنعون أوقاتاً جيدة.- الأوقات الجيدة تصنع رجالاً ضعفاء.- الرجال الضعفاء يصنعون أوقاتاً صعبة.ثم تصنع هذه الأوقات الصعبة رجالاً اقوياء مرة أخرى.ولك أخي الكريم القارئ، أن تعود إلى تاريخ الأمم، وتنقّب في حضارات الشعوب البائدة منها والقائمة، فلن تجد أمةً أو شعباً أو دولة، ولجت تاريخ التمدن والرفاهية، إلا بعد أن تمرّغت أنوف أهلها، بقيعان الصراعات والحروب، والسودان لن يكون استثناءً من تلك الأمم، ولن تقف السودان، ولن تتخلف عن ركب الحضارة، وإن تأخرت….قالت بنت السودان، الشاعرة روضة الحاج:أرجوكِ لا تتوقفي! شُقِّي عبابَ التيهِ واثقةً ولا تصغي لمن هتفوا قفي! لا تسألي من غادروك وبدلوا وتنكروا لمَ غادروك وبدّلوا وتنكّروا؟ ما ضرَّ لو لم تعرفي! والجرحُ؟ أدري أنه وجعٌ جليل أخضرٌ لم يشتفِ سيظل ينزف ربما عمراً وأي جراحنالم لم تنزفِ!مُري على هذي الحياة خفيفةً وتخفَّفي! ظهرت المقالة إلى أين يتجه السودان؟! أولاً على صحيفة الرؤية الإلكترونية السعودية .
مشاركة :