سلسلة الكتاب التي يُطلق عليها بالفرنسية La chaine du livre، مختلة عربيًّا بقوة. لا تؤدّي وظيفة أن توصل الكتاب إلى القارئ المستهلك ثقافيًّا. من هنا تثير المعارض العربية للكتاب العديد من الأسئلة المستعصية. فهي من حيث المبدأ قيمة؛ لأنّها وسيلة عملية لجعل الكتاب يتحرَّك ومرئيًّا، لكنها تطرح في كل مرة أسئلة الكاتب، والكتاب، والناشر، والدعاية والتوزيع. حلقة مفرغة، الكل يعرفها لكن لا أحد يفعل شيئًا للتخفيف من ثقلها، أو إعادة ضبطها بشكل حيوي ودقيق. أمامنا تجارب إنسانية حيّة يمكن استثمارها. دور النشر في الغرب لا ترحم. تُوفِّر كل الفرص لشيوع النص، ولكن على نص هذا الكاتب، أو ذاك أيضًا، أن يفرض نفسه، ويجد قُرّاءه، وإلاّ ستتخلّى دار النشر عنه، وعليه أن يبحث عن غيرها. الهاجس التجاري مهم، وحاسم، ولكن توفر له كل السبل والوسائل بالخصوص بالنسبة لدور النشر المعروفة والكبيرة. سألت في معرض بيروت الأخير كاتبًا كبيرًا عن هذا الموضوع تحديدًا، قال: كتبي تتحرّك باسمي، وإلاّ الناشر لا يفعل شيئًا، ولا يُنفق مليمًا واحدًا في الدعاية والإشهار، كما في كل دور النشر العالمية. أشعر ببعض الخجل لأنّي لا آخذ مسألة مثل هذه مأخذ الجديّة في ظل سلسلة الكتاب المعطلة كليًّا. جميل أن يمنح الناشر لنصوص الكاتب فرصة أن تكون مرئية، مثلما هو الحال في الغرب، وفي متناول الجميع، وإلاَّ ستصبح السلسلة مشلولة. في الغرب يسهم الكاتب بشكل طبيعي في حركية الكتاب. دار النشر توفر له فرصة أن يتحرك مع كتابه، وهو يقوم بالباقي، أي اللقاء مع جمهوره الوفي الذي ينتظره في أمكنة مختلفة، ولا يمكن للكاتب، مهما كانت الظروف، أن يخذل قرّاءه بعدم المجيء. فالكاتب يلعب دورًا طبيعيًّا؛ لأنّه لا يقع خارج الاهتمام بنصه. النص هو مادة تجارية توضع في السوق، ولها أن لا تبقى مُكدَّسة، وهو ما يُسمَّى في لغة دور النشر، الاهتمام بالكتاب. هناك ميزانية في الدار التي تحترم نفسها وعملها، مخصصة لهذه الحركية الإعلامية حتى يصبح الكتاب جسدًا، وليس مجرد افتراض في وسائل الاتصال الحديثة. والحركة تبدأ من مدينة الإقامة إلى مدن البلاد، إلى السياق اللغوي مثلاً الفرانكفونية التي تُخرج الكاتب من دائرته، ومدينته، ووطنه، أو وطن إقامته. الأمر يختلف جذريًّا في الوطن العربي. فالناشرُ العربي في الأغلب الأعم لا يخسر مليمًا واحدًا من أجل ذلك، بما في ذلك كبريات الدور. المسار يصنعه الكتاب والصدفة، أو ربما الكاتب أيضًا بجهوده. هناك لعبة الحظ في حركية الكتاب، وهناك أيضًا شيء خفي في عمق كل كتاب طبعًا، لكن هذا كله لا يمس حق الكاتب في التعريف بكتبه كلّما كان ذلك ممكنًا، ولكن أن لا يتحوّل الكاتب أيضًا إلى مركز للدعاية لكتبه، لأنّه لا جدوى من وراء ذلك. ثم إنها ليست وظيفته التي تتلخّص في المنجز الإبداعي، والعمل برفقة الناشر على جعل النص الجديد مرئيًّا. أيّ أن يسهم في البرنامج الإشهاري المُعَدّ سلفًا، بالانتقال بكتابه عبر المكتبات والميدياتيك والمراكز الثقافية، مثلما يحدث في كل بلدان العالم التي تحترم الكتاب والكاتب. إضافة إلى ذلك كله، القارئ ليس غبيًّا. له قدرات التمييز بين الغث والسمين. يستطيع أن يلمس الاستثنائي من العادي. حتى وهو تحت تأثير الصحافة المرئية أو الأدبية المكتوبة، الصانعة للكاتب أو المفبركة له أحيانًا، يتشمَّم الحقيقة ويُدركها بحواسه الفنية، ويُفرِّق بين الجيد والغث. مسألة تستحق حقيقة منا الكثير من التأمل والتفكير. على الرغم من طرح جهود الناشر الغائبة والتي تتوقف عند حدود الطباعة، يظل المشكل قائمًا، ويستحق أن يُنظر له من موقع الأمراض العربية المستشرية أدبيًّا، وبالدكتاتوريات التي تركت أثرها في التفرُّد وجنون العظمة، هذا ليس سياسيًّا فقط، ولكنه قد يكون أدبيًّا أيضًا، لأن السلطان والهيمنة ليست سمة سياسية فقط، فهي تمسُّ الحقول كلها بما في ذلك عالم النشر، وقد تجعل من الناشر فرعونًا صغيرًا يتحكَّم في أنفاس كل شيء. ينسى بسرعة أن حياته واستمراره في الحقل الثقافي مرهون بجهد المؤلف/ الكاتب/ المبدع. الزمن تغيَّر، وعلى الكاتب أن ينتزع هذا الحق من الناشر، حق أن يحصل على خاصية أن يكون نصّه مرئيًّا. لكن ذلك كله يحتاج إلى جهود كبيرة ما تزال إلى اليوم غير متوفرة.
مشاركة :