الكاتب واسيني الأعرج يصف كتاب”ستون عاماً” بالإرادة والإصرار ومحاربة المعوقات

  • 5/23/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في مقالة للكاتب الروائي العالمي واسيني الأعرج يصف بها كتاب “ستون عاماً بين المتعبين” حيث وصفه بأنه سيرتان للأب حمود “الرويبخ” والابن محمد ؛ وتحوي المقالة وصف المصاعب التي مر بها الملهمين والإصرار على تحقيق النجاحات ومساهمتهم بإيصال الكهرباء لأهالي الزلفي وكذلك إيصال الغذاء والدواء من دول الجوار إلى سكان الزلفي .     إليكم المقال بالكامل : الكاتب واسيني قراءة ممتعة نتمناها لكم أكاد أقول إن هذا الكتاب سيرتان، سيرة الوالد حمود “الرويبخ” بكل تحولاتها في المكان والزمان، في عصر عرف بمنجزه التقني العالي. وسيرة الابن محمد في صراعه مع المرض والانتصار للحياة و العلم و النجاح. زمنان يختلفان في السيرتين، لكن الإرادة الصلبة واحدة لفرض النفس، والانتصار للعلم والتكنولوجيا وخدمة الإنسان دون السؤال عن رتبته الاجتماعية أو لونه أو جنسه. الأب أنار شوارع القرية والابن أنار القلوب باكتشافاته و خيره. لكنهما سيرة واحدة أيضًا في تواصلها لأن الخير مثل الشر، لا يولد هكذا ولكن يربى عبر الأجيال، أي من الأخلاقيات التي زرعها الخال مرورا بالأب الذي واصل في نفس المسارات على الابن. هي مسار الإنسان نحو الإنسان.     على مدار أكثر من 172 صفحة يرحل بنا الأستاذ محمد الطريقي في مجاهيل الحياة التي لم تكن لحظة عادية إذ يضعنا الكاتب منذ البداية في المدارات بكل قسوتها وجبروتها وعظمتها أيضًا: ” لا أنكر أنّني تألمت كثيرا على أشياء فاتتني، وأسفت لمظالم نالتني، لكنني حين تفكرت في رحلتي، رأيت عجبًا وقد كان كل همي فيه مدّ يد العون للآخرين، كان كل هم بعضهم مد أيديهم بالأذى لما وفقني الله في تحقيقه.” ذكرني هذا الجهد بالسير الكلاسيكية الكبيرة، حيث إن من يروي كثيرًا ما يخرج عن الذات الخاصة وإن ظلت حاضرة، باتجاه الذات الاجتماعية التي تضطرب تحت هزات التحولات التاريخية والجغرافية، مما يقلّل، أو يمحو بشكل شبه كلي، أية نرجسية مبالغة، كثيرًا ما تصحب هذا النوع الأدبي الملتصق بالذات الإنسانية: السيرة الذاتية. نكتشف من خلال هذا الكتاب: ستون عاما بين المتعبين، الذي كتب بطريقة سلسة وعميقة في الآن نفسه، عالم جزء من الجزيرة العربية وبالضبط الزلفى التي لم تكن مكانًا عاديًا: ” الزلفي، تلك البقعة الخضراء المتحصنة بين صحراء النفود وجبال طويق، كأنها سرّ قديم من أسرار صحراء نجد، أو ملاذ كان العابرون يأوون إليه طلبا لمائها الزلال أو تمور نخيلها.”، من خلال رحلة الوالد “الرويبخ” الذي تيتّم في وقت مبكر في حياته، إذ تركه والده سليمان الطريقي، مضغة في بطن أمه لولوة، وتربّى في بيت خاله عبد العزيز الذي منحه العاطفة والعناية الكبيرة، وعلمه تحمل مسؤولية المستقبل حيث لا خيار للإنسان إلا العمل الدؤوب، العمل بصبر وبيقين الانتصار على ظروف طبيعية صحراوية قاسية كان من الصعب قهرها. فقد استطاع هذا الخال أن يقهر هذه الصعوبات، ويخضعها له ولقوته وجبروت صبره. كان الوالد الشاب الحيوي قد ظهرت عليه كل علامات النباهة والخير والنور. وعندما كبر الخال ورأى أن ابن أخته أصبح قادرًا على تحمل المسؤولية، وأنه قد آن الأوان ليسلم المسؤولية التي لم يعد قادرًا على ممارستها بسبب تقدم العمر، بعد أن منحه حرفة التجارة والعلاقة الطيبة مع البشر. فأصبح هو من يرتحل بعد أن تعرف على المفاوز المختلفة. يذهب إلى أبعد النقاط التي تمنحها هذه المهنة التي توفر حاجيات الناس، ولكنها تمنح، في الوقت نفسه، لصاحبها، بعض الرخاء الحياتي الذي يكون عادة ثمرة تعب حقيقي. العمل هو الذي قوى عود الشاب، والصدق هو الذي جعل علاقاته قوية مع الآخرين الذين نسميهم اليوم: المتعاملين. وحتى لا يضيع هذا الشاب يقرر خاله تزويجه بابنة أخته ليظل قريبًا من العائلة، ثم بابنته لتكون الأواصر شديدة القوة بين الخال وابن أخته. من خلال ارتحال القوافل التي كان يقودها الرويبخ، نتعرف على الحياة والظروف التي تدور فيها الأحداث، أي لحظة هي ارتقاء البشرية باتجاه ثمرات الثورة الصناعية التي غيرت العالم لكنها حتى ذلك الوقت، ظلت بعيدة عن الجزيرة، بالخصوص الزلفى، وسيكون الرويبخ هو أول من ينقل كل هذه التِّقنيات إلى المنطقة، ويكتشف الناس برفقته ومن خلاله، عالمًا لم يكونوا قد تعرفوا عليه. شيئًا فشيئًا يتم الانتقال من تجارة تقودها الجمال بصبرها الكبير، إلى الآلة العظيمة التي سهلت مشقة الإنسان. لم يعد المسافر في حاجة إلى ماء وكلأ لدوابه إذ يكفيه شيء من البنزين ليخترق الصحاري بقوافله. لم يتوقف الأب عند هذا الحد، فقد تعددت تجارته بفضل جرأته وذكائه واستماتته في إقناع خاله بأن جهده وتضحياته كانت في مكانها. وفي فترة وجيزة غيرت تجارته ملامح المكان: “وأصبحت أخبار سفره وعودته حديث أهل الزلفي ًالذين يرتقبون عودته محملاً بمواد حياتهم وإعاشتهم، من حواضر العراق، والكويت، وغيرها، بعدما ينتهي من بيع حمولته من الجلود، والصوف المغزول، وجنى النخل النجدي، على أهلها، ويعود منها محملا بالسكر والأرز، والأقمشة والثياب ولوازم النساء، بل، وعلاجات بعض الأمراض، فكان قدومه على الزلفي بمثابة قدوم الحياة على أهلها” فقد تفطن بنباهته إلى الكهرباء وضرورتها لحياة الناس، فكان أول من أنار قريته تحت دهشة سكان واحة الزلفى الذين لم يفهموا بسهولة كيف لمكان كان دائمًا مظلمًا، تصبح شوارعه الرئيسية مشرقة ومضاءة فجأة؟ هذا الاكتشاف غيّر نظام حياة أهل الزلفى، ومنحهم فرصًا لحياة أجمل وأسهل وأكثر حبًا. في وقت وجيز يصبح الوالد وكيلاً حقيقيًا لإنتاج الكهرباء من خلال شركته ومدها من الشمال إلى الجنوب، بين الرياض وجدة: ” … يقرر إنشاء أول شركة كهرباء في الزلفي، والثالثة في المملكة بعد الرياض وجدة، على فضاء أرض طلب تخصيصها، من الدولة، وجاءته الموافقة على الفور، لتصبح الزلفي ثالث بقعة تنار بالكهرباء” وبفضل حنكته، استلم الكثير من الأسواق الحكومية. بل ذهب في تحديه إلى أكثر من ذلك، فقد جعل سكان الزلفى في سنة 1937، يكتشفون شيئًا أكثر دهشة: السيارة أو الشاحنة التي تتجاوز حمولة الواحدة منها، حمولة عشرة جمال، وتسير بسرعة فائقة. لكن الإنسان الذي يعمل، هو عرضة دائمًا من طرف الذين ينامون على تخلفهم، ويعارضون أي تحول أو نجاح. عندما زار الوزير الزلفى في سيارة تفقدية، لم يدع من طرف الأعيان، للجلوس مع الوزير. لكنه يذهب، وينتبذ مكانًا قصيًا داخل المضافة، ويشارك في السجال حول ما يجب فعله لمصلحة الزلفى.     الابن محمد، صاحب هذه السيرة، يكبر في هذا المناخ العظيم. لكن رغبة الوالد في تعليم ابنه فاقت كل شيء. وتستمر تلك الرحلة عشر سنوات من التكوين في المملكة المتحدة، تبدأ من الثانوية العامة، مرورًا بالبكالوريوس، فالماجستير والدكتوراه. كان مثل والده، يحلم بنقل الخبرات العالمية إلى وطنه لعلاج من هم في حاجة إلى ذلك. العلاقة مع بريطانيا بدأت قبل ذلك، من خلال مرض الطفل محمد وهشاشته الصحية. وكان عليه أن يكون من العشرة الأوائل من الناجحين ليستفيد من الابتعاث. وهو ما يحدث بالفعل. يسافر إلى بريطانيا وهناك يدخل إلى المستشفى وتجرى له عملية على الرئتين، معقدة، إذ يتم اقتطاع جزء منها، ويشفى، لتصبح الحياة بعدها أجمل. وكان حلمه أن يصبح طبيبًا ليكون مفيدًا لمجتمعه ومحيطه. لكن النقاط التي جمعها في دراسته لم تكن كافية، ولا تسمح له إلا بالهندسة بسبب تغير النظام الدراسي من العربية إلى الإنجليزية. ويفكر في الذهاب إلى باكستان أو لبنان لدراسة الطب هناك لكنه حدث شيء أعاده إلى الاعتماد على الإرادة القوية فاستعاد والده وإرادته الصلبة يوم لم يصدقوه أنه قادر على إنارة الزلفى وغيرها، فأعلن عن تحديه برمي عقاله على الأرض: “كانت بارقة أمل كبيرة أمامي. لكنها اصطدمت بعقال أبي. العقال الصلب العنيد الذي لا يقبل الانسحاب من الميدان تحت أي ذريعة من دون تحتقيق انتصار كامل.” فينتهي به الأمر إلى الاقتناع بجدوى خياره الجديد، ويدرس الهندسة في جامعة لانكستر بشمال إنجلترا، إلى أن تحصل على بكالوريوس هندسة ميكانيكية. لكن شيئا ما فيه يدفعه دوما نحو الطب إلى يوم وجد تكوينا يجمع بين الهندسة والطب، بجامعة سالفورد بمانشستر يحمل اسم: هندسة تقويم الأعضاء، يساعد المعاقين والعجزة على التحرك ويعتمد على تطبيقات الهندسة الميكانيكية. له علاقة بالأعضاء الاصطناعية ويدخل التكوين ويجمع بين الهندسة والطب، وقد أفلح في 1984 في إنجاز الدكتوراه، وبراءة اختراع لمنجزه العلمي. حلمه الكبير كان أن يستقدم هذه العلوم التجريبية إلى وطنه، وإلى الناس الذين هم في حاجة ماسة إليها، لكن البيروقراطيات العربية، كما في كل الأمكنة، لم تقدّر أولاً هذا الجهد وما كان يملكه هذا الشاب المتحمس من طاقة خلاقة، فحاصرته حتى في إمكانية إيجاد عمل يناسب تخصصه. أخفق في إيجاد عمل كليتي الهندسة والطب بجامعة الملك سعود. قبل أن يلتحق بالمركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا الذي قبل به وبسرعة ارتقى إلى منصب نائب مدير العلوم الطبية. ثم يجد عملاً جادًا يستطيع أن يجري فيه تجاربه بكلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة امللك سعود، “وبهذا أصبحت أول أكاديمي في هذا التخصص في الجامعة، وأول رئيس سعودي لقسم التكنولوجيا الطبية الحيوية (الهندسة الطبية) في جامعة الملك سعود.” ويصل في النهاية إلى تسيير مركز واسع ساهم في حل مشكلات كثيرة بالنسبة للناس المعوقين أو ذوي الحاجات الخاصة، ولم يحسب أي حساب للمال مقابل منح السعادة للناس. لكن تجري رياح الغيرة والحسد بما لا تشتهي سفن الخير و العمل. نجاحات الرجل القادم من أراضي الغربة وانضباطه في عمله، حركت الكثير من العاجزين لإعادته في أداء رسالته الإنسانية. و يضطر إلى ترك المكان بحزن بسبب صدام مع العميد الذي أظهر له أن صلاحياته لا تتعدى شراء قلم الرصاص أما الأجهزة الغالية فلا. كيف يمكن تسيير مركز مهم دون أجهزة؟ و يهتدي في النهاية إلى تكوين مركز يختص بالأطراف الصناعية لذوي الحاجات أطلق عليه اسم: المركز المشترك لبحوث الأطراف الاصطناعية والأجهزة التعويضية وبرامج تأهيل المعاقين. ويتحصل على الموافقة من وزارة الصحة. و كان عليه أن يبحث عن مصدر للتمويل. وقد وجد جزءًا منه لدى السلطات العليا للبلاد، لكن “المعوقين ذهنيًا” كانوا له دومًا بالمرصاد فأوقفوا نشاطات المركز، وحرموا تسعة آلاف من ذوي الحاجات الخاصة من المتابعة الطبية. لنا أن نتخيل، ونحن نقرأ هذه السيرة الجميلة والقاسية أيضًا، الكمّ من الآلام التي عاني منها الأب والابن في عالم لم يكن سهلاً، ولنا أن نتخيل أيضا القدر الكبير من السعادة التي شعر بها سكان الزلفى وهم ينخرطون في الحضارة الجديدة باكتشافهم للكهرباء والآلات والحياة السهلة، أو الناس اليائسين وهم يكتشفون بعد قهر كبير، أن الحياة ممكنة وأنه أصبح بإمكانهم المشي والحركة، وتحريك أيديهم، لأن التطور الطبي وصل إلى درجة جعلت المستحيل ممكنا. هذه السيرة درس في شيء مهم هو الإرادة والإصرار ومحاربة كل المعوقات التي تقف في طريق الإنسان. تتجلّي الطاقة الإيجابية في عز الصعوبات لأن الحياة تعاش مرة واحدة، إما أن يكون ذلك بإنسانية وعمق، وإما بلا جدوى ولا معنى. و الكاتب اختار مسلك الإنسان، أي أن يقف في صف المتعبين الذين هم في حاجة ماسة إليه. و لو تم ذلك داخل دوامة مقاومة الشرور والانتصار للخير. فنحن لا نخلق محبين للخير ولكننا نكبر عليه ونراه يوميًا حتى ولو كان محدودا، لكنه موجود. حمود سطّر الطريق الأسلم، وجاء محمد الابن ليواصل بعده، ويستمر فيه حتى ولو اختلفت الأزمنة والعصور، يظل الإنسان واحدا. ربما كان أجمل ما في السير الذاتية التي كثيرًا ما تستعصي على التصنيف هو أنها تنطلق من الذات في ارتباكها وفي رغباتها السامية لتروي لنا حياة بكاملها في كل تحولاتها واهتزازاتها، وقد تكون نموذجية، مثل السيرة التي بين أيدينا وهي درس في العقلانية والتصميم والإصرار على الخير، حتى ولو كان ذلك في أصعب الظروف. سلطة الطبيعة لم تمنع الوالد من أن ينتصر على الصعوبات ويتحول إلى مرجع في الزلفى وفي غيرها من مناطق البلاد، التي جلب لها النور بالمعنى المادي للكلمة، وجعل الناس يكتشفون عالما غائمًا وصعبًا من التكنولوجيا التي لم يكونوا يعرفونها. وهو ما قام به صاحب السيرة الذي ظل مصرًّا على نور الثقافة والعلم والمعرفة والتنوير ومساعدة من كانوا في حاجة إلى ذلك. وقد لا تكون في السيرة أية نموذجية، ولا تتوخي أي درس إلا درس الإرادة الذي يُستجلى من النظام النصي نفسه، وتبني مشروعها الكلي على فيض قسوة الإنسان والحروب والظلم لدرجة تحويل البشر إلى كائنات تائهة بعد أن فقدت الحد الأدنى من شرطيتها الإنسانية، مثل سيرة الكاتب المغربي محمد شكري: الخبز الحافي، فتدفع بنى السيرة المروية بتفاصيلها العنيفة أحيانًا، نحو شيء مركزي هو الانتصار للحياة والإرادة الفذة. لم تمنع الأمية المنتشرة في الريف محمد (شكري) من أن ينتقل من الأمية المطبقة حتى سن العشرين، إلى التعلم والتعليم والتحول إلى دليل سياحي للأجانب لعشاق مدينة طنجة ثم إلى كاتب اخترق الحدود المحلية باتجاه العالمية، فتترجم “الخبر الحافي” إلى أكثر من ثلاثين لغة عبر العالم. فالسيرة في النهاية هي الإنسان مختزلاً في اللغة، ومعبَّرٌ عنه من خلالها.   تحميل كتاب ” ستون عاما بين المتعبين”

مشاركة :