في خضم هرولتنا وراء بهارج الدنيا، وتداعينا على ملذاتها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، استوقفتني مقولة بليغة للأديب الروسي مكسيم غوركي يقول فيها إن "سر الرضا هو الاقتناع أن الحياة هبة وليست حقًا". نفوسنا البشرية معجونة بالحرص والطمع وكأنها مخلّدة في هذه الدنيا، والسعيد من وجد السبيل لتهذيبها واستثارة مسببات الرضا فيها وإمساك الخط الرفيع بين الطموح والقناعة. أحد الأمور التي ما تنفك عن إثارة إعجابنا هي منهج البساطة الذي يتبعه الإنسان الياباني وقدرته على رؤية الجَمَال في أصغر الأشياء، الأمر الذي دفعني إلى أبحث عن أساس هذه الخصلة البارزة في شخصيته. عزا بعضهم ذلك إلى تأثير منهج الحركة الفنية الغربية التي ظهرت في الستينيات والمعروفة بالتخفّف؛ أو التجرّد؛ أو التبسيط (Minimalism) إلا أن هذا العزو غير دقيق تمامًا، إذ يرجع أصل هذه الخصلة إلى مفهوم فلسفي أقدم بكثير وجدته مضَمّن في مناهجهم الدراسية يُشار إليه بـ الـ "وابي-سابي (Wabi-Sabi)." يمكن وصف الـ "وابي-سابي" بأنه فلسفة جمالية يابانية تدعو إلى البساطة ورؤية الجَمَال في كل شيء، وقبول الأشياء كما هي بكل عيوبها وترهلاتها. حيث يتعلم الطالب إيجاد عناصر الجَمَال والإثارة والتقدير في أكثر الأشياء بساطة مهما كانت معتادة أو معهودة. ولا عجب؛ إذ تمنح هذه الفلسفة تقديرًا كبيرًا لدورة الحياة لكل عنصر من عناصر الطبيعة بدءًا من نشأتها وحتى وهنها أو حتى فنائها، وهي - بحسب وصف ريتشارد بويل- تُقِّر بثلاث حقائق مجردة: لا شيء يدوم؛ لا شيء يكتمل؛ لا شيء كامل أو مثالي. متحدثًا عن القناعة، يقول الدكتور مصطفى محمود "قد لا تصدقني إذا قلت لك إنك تعيش حياةً أكثر بذخًا من حياة كسرى وإنك أكثر ترفًا من إمبراطور فارس وقيصر الرومان وفرعون مصر.. ولكنها الحقيقة! إن أقصى ما استطاع فرعون مصر أن يقتنيه من وسائل النقل كانت عربة يجرها حصان.. وأنت عندك سيارة خاصة، وتستطيع أن تركب قطارًا، وتحجز مقعدًا في طائرة! وإمبراطور فارس كان يضيء قصره بالشموع وقناديل الزيت.. وأنت تضيء بيتك بالكهرباء! وقيصر الرومان كان يشرب من السقا ويُحمَل إليه الماء في القِرَب.. وأنت تشرب مياهًا مرشحة من حنفيات ويجري إليك الماء في أنابيب! ولويس الرابع عشر كان عنده طباخ يقدم أفخر أصناف المطبخ الفرنسي.. وأنت تحت بيتك مطعم فرنسي، ومطعم صيني، ومطعم ألماني، ومطعم ياباني، ومحل محشي، ومحل كشري، ومصنع مخللات ومعلبات، ومربات وحلويات! ومراوح ريش النعام التي كان يروح بها العبيد على وجه الخليفة في قيظ الصيف واللهيب.. عندك الآن مكانها مكيفات هواء تحول بيتك إلى جنة بلمسة سحرية لزر كهربائي!" وإن كان لي أن أضيف مثالاً من وقتنا الحاضر فإن مراهقًا من الطبقة المتوسطة يعيش اليوم في بحبوحة من العيش بشكلٍ لم يكن متاحًا للملكة البريطانية إليزابيث في شبابها. ويكفينا من ذلك أننا نعيش في العصر الأكثر أمنًا واستقرارًا إذا ما قورن بالحقب الزمنية التي شهدت الحربين العالميتين والمذابح والفظائع المدوية التي ارتكبت فيهما. لست من دعاة التقتير أو الزُهد المُصطنع؛ ولكني أدعو نفسي وإياكم إلى خلق عادة دائمة للبحث عن الجَمَال في أبسط الأشياء والشعور بالامتنان تجاهها، والحذر من ألفة النِعَم وكأنها مكفولة للأبد.
مشاركة :