في عام 1950، اقترح أبو الكمبيوتر آلان تورنغ، تدريب ذكاء اصطناعي لمنحه ذكاء الطفل وتقديم الخبرات له لتطوير ذكاء شخص بالغ. ومنذ ذلك الوقت ظل ابتكار روبوت يفكر كما الإنسان أحد أكبر التحديات. واليوم يقول باحثون إنهم على بعد خطوات من تحقيق ما اقترحه تورنغ. يظل إنشاء نظام ذكاء اصطناعي يمكنه التصرف والتفكير كما الإنسان أحد أكبر التحديات في علوم الكمبيوتر. ولكن هذا قد لا يستمر طويلا. في تجارب جديدة قام باحثون بتدريب نظام ذكي يمكنه التفكير مثل الطفل، بعد تعليمه قواعد أساسية حول العالم المادي الذي يحيط به. ويمكن للنظام الذي أطلق عليه اسم “بلاتو” اكتساب الخبرات وتعلم “الفيزياء البديهية”، أو ما اعتادت المجتمعات البشرية على تسميته بقواعد الفطرة السليمة واكتشاف كيفية تفاعل الأشياء المادية. قدرات البشر البالغين وتمكن نظام التعلم العميق (بلاتو) بعد أن تم تدريبه باستخدام مجموعة صغيرة من الرسوم المتحركة من إظهار قدرة على التعلم وحتى إبداء المفاجأة في حال تحركت الكرة بطريقة مستحيلة. الدراسة الجديدة أجراها خبراء من جامعة برينستون في ولاية نيوجيرسي الأميركية بالمشاركة مع كلية لندن الجامعية، وشركة “ديب مايند” التابعة لغوغل ونشرت في مجلة “نيتشر هيومان بيهيفير”. النتائج التي توصلت إليها الدراسة تعتبر من وجهة نظر الخبراء في غاية الأهمية لتطوير المحاولات المبذولة لبناء نماذج ذكاء اصطناعي تتمتع بنفس قدرات البشر البالغين على الفهم والإدراك. وبالنسبة إلى دراستهم، تساءل الباحثون عما إذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي يمكن أن تتعلم مجموعة متنوعة من المفاهيم الفيزيائية – على وجه التحديد تلك التي يفهمها الأطفال الصغار، مثل الصلابة (إن جسمين لا يمر أحدهما عبر الآخر) والاستمرارية. وقام المعدون بتدريب بلاتو من خلال عرض مقاطع فيديو للعديد من المشاهد البسيطة، مثل الكرات التي تسقط على الأرض، والكرات التي تتدحرج خلف أشياء أخرى وتعاود الظهور، والكرات التي ترتد عن بعضها البعض. وبعد فترة من التدريب، تم اختبار بلاتو من خلال عرض مقاطع فيديو تحتوي في بعض الأحيان على مشاهد مستحيلة، مثل الكرات التي تختفي وتعاود الظهور على الجانب الآخر من الإطار. وتماما مثل طفل صغير، كان بلاتو يفاجأ في كل مرة يظهر له أي شيء لا معنى له، مثل الأشياء التي تتحرك من خلال بعضها البعض دون التفاعل. وكان بلاتو يتنبأ بالتشكيلات الجديدة للكرات التي ستظهر لاحقا. وخلال عرض مقاطع الفيديو، كان يتابع التشكيلات كما تحدث ويبدي ردود فعله في حال تطابقت نبوءاته أو اختلفت عن التشكيلات كما تظهر فعليا. وشوهدت تأثيرات التعلم هذه بعد مشاهدة ما لا يزيد عن 28 ساعة من مقاطع الفيديو. واستنتج الباحثون أن بلاتو يمكن أن يقدم أداة قوية للبحث في كيفية تعلم البشر للفيزياء البديهية. وتظهر النتائج أيضا أن أنظمة التعلم العميق المصممة على غرار الطفل الرضيع تتفوق في الأداء على أنظمة “التعلم من الصفر” الأكثر تقليدية. النتائج التي توصل إليها فريق البحث عام 2022، سبقهم إليها، أو على الأقل تحدث عنها في عام 1950 عالم الكمبيوتر البريطاني الأسطوري آلان تورنغ، حيث اقترح تدريب ذكاء اصطناعي لمنحه ذكاء الطفل، ثم تقديم الخبرات المناسبة له لبناء ذكاء شخص بالغ. هذا هو السؤال طفل “بدلا من محاولة إنتاج برنامج لمحاكاة عقل الكبار، لماذا لا نحاول إنتاج برنامج يحاكي الطفل؟”. هذا هو السؤال الذي طرحه تورنغ منذ 72 عاما في ورقته البحثيّة “آلات الحوسبة والذكاء”، حيث تناول مشكلة الذكاء الاصطناعي، واقترحَ تجربةً أصبحت تُعرف باسم اختبار تورنغ. كانت ورقتهُ هذه محاولة منه لتقديم تعريف دقيق للأجهزة الإلكترونية ومتى يمكن تسميتها أو وصفها بـ”الذكية”. كانت فكرة تورنغ ترى أنه يمكن القول بأنَ الكمبيوتر “يفكر” إذا لم يستطع محقق بشري التمييز بينه وبين الإنسان خلال محادثة معه. اقترح تورنغ في الورقة أنه بدلًا من بناء برنامج لمحاكاة عقل الكبار، سيكون من الأفضل إنتاج برنامج أبسط لمحاكاة عقل الطفل ثم إخضاعه لدورة تعليمية. ثورة الذكاء الاصطناعي التي نعيشها اليوم تأخرت نصف قرن أو أكثر. من سوء حظ العالم أن الرجل الذي ساهم في هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية، لم يتح له الوقت لبدء هذه الثورة، وإن كان قد وضع فعليا حجر الأساس لها. من سوء حظ العالم أن الرجل الذي ساهم في هزيمة الألمان لم يتح له الوقت الكافي لبدء ثورة الذكاء الاصطناعي في عام 1952 حوكم تورنغ بتهمة “ممارسة علاقات جنسية مثليّة”، فقَبِلَ العلاج الهرموني أو ما يسمى بـ”الإخصاء الكيميائي” كعقاب بديل عن السجن. وبعد عامين من محاكمته، توفي تورنغ عام 1954، قبل 16 يوما من عيد ميلاده الثاني والأربعين، بسببِ تسمُم السيانيد. وتوصل تحقيق إلى أنّ موته كان انتحارا. رحل تورنغ تاركا خلفه إرثا كبيرا في المملكة المتحدة وفي باقي دول العالم، وخاصّة في المجالات العلميّة التي نشط فيها وأحبَّها. إلا أن رحيله المبكر أخّر ثورة الذكاء الاصطناعي نصف قرن على الأقل وحرم العالم من قطف ثمارها. بعد حملة على الإنترنت في عام 2009، قدّم رئيس الوزراء البريطاني حينها غوردن براون اعتذارًا رسميًا علنيًا نيابة عن الحكومة البريطانية عما وصفه بـ”الطريقة المروّعة التي عومل بها تورنغ”، فيما منحت الملكة إليزابيث الثانية تورنغ عفوا ملكيا في عام 2013. بُنيت تماثيل للرجل كما سُميّت العديد من الأماكن والجوائز باسمه، بما في ذلك جائزة سنوية حملت اسمه تخص أفضل الابتكارات في علوم الكمبيوتر. وظهرت صورة تورنغ أيضا على الورقة النقديّة الحاليّة من بنك إنجلترا بقيمة 50 جنيها إسترلينيا، والتي صدرت بالتزامن مع عيد ميلاده كنوع من الاحتفال به والإشادة بما قدّم. واختارته قناة بي بي سي في برنامجها الذي صدر عام 2019 بعنوان الأيقونات: أعظم شخصٍ في القرن العشرين.
مشاركة :