يتكون الرأي العام من عدة مكونات تشكل قناعة تعد هي المنبع المعرفي للتواءم الاجتماعي، ويبنى الرأي عادة من خلال معارف متوافرة في محيط الواقع الذي على أساسه تترسخ طبيعة المنظومة القيمية، فلا معرفة تؤثر برأي إلا ولها وجود في سياق المنظومة القيمية لصاحب الرأي نفسه، لذلك إن عدم التجانس فيما بين المعرفة مع سياق منظومتها القيمية يعطي مؤشرا على إشكالية في الانسجام الاجتماعي للقناعات يؤثر سلبا على بناء إطار الوعي المجتمعي، ومن هنا تظهر أهمية معرفة طبيعة المنظومة القيمية كحاضنة تحدد المقبول وغير المقبول من المعارف التي تُؤسس انطلاقا منها القناعات الموجهة لتنمية الوعي، وعلى هذا الأساس تتضح أهمية الوعي الجماعي كمكون محرك للتغيير الاجتماعي. المنظومة القيمية ليست وليدة العدم، فهي حصيلة سياقات ناتجة من جوانب تاريخية وعقائدية وسلوكية وغيرها، وهو ما تتأسس عليه معظم الخطط التنموية والتطورات الإنثربيولوجية، إلا أن الاضطراب في هذه المنظومة يحدث حالة من الإخلال بعمليات التنمية لتُبقي المجتمع في حالة ارتباك مفاهيمي وقناعاتي، مما يؤثر على تشكيل المنظومة القيمية للوعي المجتمعي السليم، كما أن المنظومة القيمية وفي حالة عدم نضجها تكون مقاومة للتغيير تتنازع بها سياقات تشكيلها ويتبين ذلك في مقاومتها لعمليات التنمية الثقافية والتنوع المعرفي، والتي تنعكس على تفاوت المعارف والآراء المشكلة للرأي العام ونظرته للواقع من حوله، سواء بالتعميم الإدراكي، أو الاختزال المعرفي الأحادي، فتصبح المنظومة القيمية عائقا في رفع مستوى الوعي المجتمعي. ولذلك، معظم البيئات التقليدية تعتبر حماية الرأي العام أساسا للحفاظ على مستوى الوعي الاجتماعي من خلال التحكم في معارف المنظومة القيمية، إلا أن التحول الذي حدث منذ الثورة الصناعية الثالثة وتطور جوانب الاتصالات أثر على تنوع المعارف المشكلة للآراء ومدى تواؤمها مع المنظومة القيمية، وعند دخول الإنترنت وتطور التقنية بدخول منصات التواصل الاجتماعي أصبحت المعادلة أكثر تعقيدا في نوعية المعارف المتوفرة والمتداولة، حيث إن العملية أصبحت تتمحور حول لامركزية صناعة المحتوى والتي حولت المكافئة الاجتماعية مباشرةً للفرد، من خلال تفاعل المجتمع معها، وجغرافية المنصات والقنوات الاجتماعية والتي قد تمتلك منظومات قيمية مختلفة وتقنية القنوات التي تعتمد على منطقية الذكاء الاصطناعي والتي لا تميز السياق القيمي لاستخدامات المحتويات المختلفة وتركز على التعميم الإدراكي، لتصبح موائمة المعارف الداخلة في تشكيل الآراء مع المنظومة القيمية معقدة تُخلق بها أزمة رأي ومعرفة. وبالتالي، إن فعالية مواءمة مكونات إطار الوعي المجتمعي تتحقق حين تتوافق المحتويات (المعارف) المتداولة مع المنظومة القيمية، بحيث يبقى الرأي العام معززا لمنظومته القيمية ومحميا بثوابتها. ولكن في حال اختلاف المحتويات المتداولة عن ثوابت المنظومة القيمية، تحدث أزمة في الرأي العام، تصنع من خلالها رموزاً ثقافية مختلفة عن طبيعة المنظومة القيمية ويحدث ارتباك ثقافي عبر تزييف القيمة الثقافية العامة مما يخلق عوامل اضطراب في عملية المواءمة لإطار الوعي المجتمعي. إن فعالية عملية المواءمة لن تُحقق من خلال التنافس في عملية الانتشار أو صناعة التبريرات وتصحيح المفاهيم فقط، كما أن الدخول تنفيذيا في هذا المعترك لن يكون ذا فعالية في تشكيل إطار الوعي المجتمعي، وإنما يتم ذلك عبر ضبط المحتويات الرئيسية المتناقلة من خلال القنوات المتنوعة، بدلا من التنافس في صناعة محتوى عكسي يصحح مفاهيمها، وهذا لا يعني الاصطدام المباشر مع الآراء، ولكن ضبط تنظيم أدوات التعبير والإطار القانوني لاستعمال القنوات المتعددة في سياق المنظومة القيمية للمجتمع، وهذا ما يمثل تأهيلا للإطار العام للوعي المجتمعي لكي يتناسب مع تطورات الوسائل الاتصالية الراهنة. وعليه فإن مبادرة تطوير المحتوى الرقمي السعودي (Ignite) بما يتناسب مع مهمه مواءمة مع المنظومة القيمية للمملكة، تتطلب نموذجا تشغيليا مختلفا عن النماذج الأخرى، لأن طبيعة ارتباط هذه المبادرة بالتركيب ما بين المعارف (أو المعلومات الداخلة في صناعة المحتوى) والقنوات الصانعة للآراء مع المنظومة القيمية الداخلة في تكوين القناعات، متشعبة وذات مستوى عالٍ من التعقيد، ومؤشر نجاحها سيظهر عندما نصل إلى الانسجام المجتمعي للقناعات التي توجه الوعي العام، للانخراط في دعم عملية التنمية داخل وخارج المملكة. من هنا، إن الوعي المجتمعي مستمر وغير متوقف وكذلك هي حماية المواءمة بمفاهيمها القانونية والتشريعية والإدارية عامة.
مشاركة :