أكد المفكر الإسلامي، الدكتور محمود حمدي زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مركز حوار الأديان بالأزهر، أن موجات الكراهية وحملات المواجهة التي انطلقت ضد الإسلام والمسلمين في الغرب عقب هجمات باريس لن تؤدي إلى انحسار الإسلام في المجتمعات الغربية، ولن توقف انتشار دين التسامح والرحمة بين الغربيين، فكل التقارير الواردة من الغرب تؤكد إقبال الغربيين من رجال ونساء على اعتناق الإسلام عن قناعة ورضا، ولا يرجع الفضل في ذلك للمسلمين في البلاد الإسلامية أو هؤلاء الذين يعيشون في الغرب، لأن غالبية المسلمين هنا وهناك ليسوا صورة طيبة لإسلامهم ولا يجسدون في سلوكياتهم قيم الإسلام وأخلاقياته السامية. ورفض الدكتور زقزوق في حواره مع الخليج الرد على التعصب الغربي بتعصب مماثل وقال: علينا أن نتعامل مع تداعيات الأحداث الدموية التي شهدتها باريس مؤخراً على يد بعض المتطرفين بحكمة وهدوء، ولا ينبغي أن نرد على غضب الغربيين بغضب مماثل يؤدي إلى مزيد من التوتر والتعصب، ويدفع بعض المتهورين إلى سلوك عدواني، فالمطلوب من المسلم أن يلتزم بضبط النفس وأن يجسد في سلوكه قيم التسامح الإسلامي. وفند الدكتور زقزوق الأكاذيب والأوهام الغربية حول الإسلام، خاصة تلك التي تربط بين الإسلام والتطرف والعنف وذلك من خلال الحوار التالي: } كيف تنظر إلى مستقبل الإسلام في المجتمعات الغربية في ظل طوفان الكراهية الذي انطلق في معظم المجتمعات الغربية عقب أحداث باريس؟ من الطبيعي أن نرى موجات غضب ضد الإسلام والمسلمين في الغرب عقب كل جريمة يرتكبها متطرفون ينتسبون إلى الدين الإسلامي، وقد شهدنا هذه الموجة بعد الهجمات الوحشية التي ضربت باريس التي يجب أن نتعامل مع تداعياتها بحكمة وهدوء، ولا ينبغي أن نرد على غضبهم بغضب مماثل، بل علينا أن نفتح معهم قنوات تواصل وأن نبادر نحن المسلمين بإدانة كل ما يحدث في بلادهم من عنف وأن نقدم كل صور المساعدة لمواجهة المتطرفين الذين يمارسون القتل والتخريب بعد التبرؤ من جرائمهم، وعلينا أن نحتوي التصريحات الاستفزازية لبعض الغربيين في مثل هذه المواقف وما يتبعها من كتابات وتصريحات عدوانية ضد الإسلام والمسلمين في الغرب. ومن خلال القراءة الدقيقة للتداعيات التي تصاحب مثل هذه الأحداث الكبرى، نؤكد أنها لن تؤدي إلى انحسار الإسلام كدين في هذه البلاد فالوجود الإسلامي في الغرب يتنامى بشكل ملحوظ والقلة الشاذة من المتطرفين الذين احتضنهم الغرب تحت شعارات كاذبة لا يمثلون الوجود الإسلامي الحقيقي في هذه البلاد، فالمسلمون هناك علماء أفذاذ في كل التخصصات ومهنيون متميزون وسياح يحققون للغرب مكاسب كثيرة، والعقول والأيدي العاملة الإسلامية هي من أسهمت بنصيب كبير في رقي وتقدم هذه البلاد وعقلاء الغربيين من السياسيين والمثقفين يشهدون بذلك ويسجلونه في كتاباتهم. عداء متوارث للإسلام } بعضهم يرى أن القول بعدم تأثير هذه الأحداث على صورة الإسلام وحقوق المسلمين في الغرب إفراط في التفاؤل.. بحكم متابعتك الدقيقة لعلاقة الغرب بالإسلام وموقعك في الأزهر كمسؤول عن مركز حوار الأديان.. ماذا تقول لهؤلاء؟ أنا لست غارقا في التفاؤل، رغم أن ديننا حثنا دائماً على التفاؤل، وأؤكد أن هذه الأحداث الدموية ستؤثر حتماً على الوجود الإسلامي في الغرب كله بلا شك، وستؤدي إلى ضغوط كثيرة على المسلمين في هذه البلاد.. لكن علينا أن نتذكر أيضاً أن مواجهة الإسلام في الغرب لا تحتاج إلى أحداث دموية تستند إليها، فالمواجهة قائمة على صعد مختلفة، فهناك عداء متوارث للإسلام في الثقافة الغربية يحييه من وقت لآخر بعض السياسيين وبعض كتاب الغرب ومفكريه، والمتعصبون من رجال الدين، لكن المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يعاني منها الغربيون تدفع الكثيرين منهم إلى البحث عن ملاذ آمن، وقد وجد بعضهم هذا الملاذ الآمن في الإسلام. أبلغ رد على الغربيين } التقارير الواردة من معظم المجتمعات الغربية تؤكد إقبال النساء على اعتناق الإسلام.. بماذا تفسر ذلك؟ هذا صحيح، وهو أبلغ رد على الغربيين الذين يزعمون أن الإسلام أهدر حقوق المرأة، فبعض المثقفين الغربيين المتأثرين بما يردده المستشرقون يعتقدون- واعتقادهم خاطئ- أن المرأة في ظل شريعة الإسلام لم تحصل على حقوقها كاملة، وأن المرأة الغربية مميزة عنها.. وهذا كلام لا يستند إلى أدلة وبراهين ويؤكد جهل من يردده بالإسلام وشريعته ومنهجه في الحياة، فالإسلام انتشل المرأة من الأوضاع السيئة التي كانت تعيشها في الجاهلية، وهو الآن الدين الوحيد القادر على انتشالها من حياة العبث والفوضى التي تعيشها في ظل الحضارة الغربية التي أباحت للمرأة فعل كل شيء وأباحت للآخرين أن يستغلوها ويسيئوا التعامل معها. وأقول لمن يطالبون بالمساواة بين الرجل والمرأة في بلادنا العربية متأثرين بالأفكار الشاذة والثقافة الوافدة من الغرب: الإسلام هو الذي أرسى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، والرسول صلى الله عليه وسلم، وصف العلاقة بين الرجل والمرأة بقوله: النساء شقائق الرجال لهن مثل الذي عليهن بالمعروف والوصف بكلمة شقائق يوضح لنا المساواة والندية، والرجال والنساء أمام الله سواء لا فرق بينهما إلا في العمل الصالح الذي يقدمه كل منهما كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. والعديد من النصوص القرآنية والنبوية تؤكد كفالة الإسلام لحقوق المرأة، وتؤكد أن الإسلام وفر للمرأة المسلمة كياناً اجتماعياً لا تحظى به المرأة الغربية التي تعيش في ظل حضارة كل شيء فيها مباح حتى الاتجار بكرامة المرأة.. لذلك من الطبيعي أن تلجأ المرأة الغربية إلى الإسلام فهو الملاذ الآمن لها، والمرأة الغربية العاقلة لا تلتفت إلى الحملات المسعورة التي يقودها الإعلام الصهيوني في الغرب ضد الإسلام، ولا إلى المغالطات والاتهامات الظالمة التي يرددها خصوم الإسلام في هذه البلاد بعد أن وجدت الحماية في تعاليم ومبادئ ديننا الإسلامي العظيم. حتمية الحوار } الغرب في حالة مواجهة دائمة للإسلام هذه الحقيقة يؤكدها كل المراقبين الموضوعيين لعلاقة الغرب بالإسلام.. لكن هل هناك ما يبرر تصعيد العداء بعد حادث ارتكبته عناصر متطرفة؟ بالتأكيد ليس هناك ما يبرر وضع المسلمين في سلة واحدة، فهناك متطرفون إسلاميون كما يوجد متطرفون مسيحيون ويهود، والتطرف كله خروج على تعاليم الأديان، ونحن كمسلمين لا نتهم المسيحية ولا اليهودية بالتطرف عقب كل جريمة يرتكبها متطرفون من المسيحيين أو اليهود. لذلك نناشد الغربيين بالتعقل وهم يتحدثون عن الإسلام والمسلمين، فالإسلام دين سلام وحوار وتعاون وهو قادر على احتواء كل المخالفين له والتعامل معهم من خلال منظومة العدل التي تمثل قاعدة أساسية في علاقاته بالآخرين، ونحن كمسلمين ندعو دائماً إلى الحوار والتفاهم والتلاقي، وأنا شخصياً ألقيت محاضرات عدة، وكتبت عدداً من الدراسات والمقالات التي تؤكد حتمية الحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، وأعددت دراسة جادة عن إمكانات التفاهم والتعاون بين الإسلام والمسيحية، وأوضحت أن لدى كل من الإسلام والمسيحية أفضل الإمكانات في العصر الحاضر لفهم مشكلات العالم الحديث، والإسهام بدور فاعل في إيجاد الحلول المناسبة لها، وذلك لأنهما يناديان من حيث المبدأ بالتصدي لمشكلات مشتركة مثل مشكلة الانهيار الحضاري التي ترتبط بها مشكلات عديدة مثل تصاعد أعمال العنف وانتهاك حقوق الإنسان، وتخريب البيئة والإدمان والإيدز، فعقيدة كل منهما تحتم عليهما الاهتداء فيما يقومان به بقيم الرحمة والمودة والمحبة والسعي نحو تحقيق العدالة وبخاصة للفقراء والمظلومين في عالمنا. جهل فاضح ويضيف: لا ينبغي لحادث إرهابي يقع هنا أو هناك على أيدي جماعة أو تنظيم إرهابي أن يفسد العلاقة بين الشعوب الغربية المسيحية والشعوب الإسلامية، وأن ينسف ما بذلناه من جهود للحوار والتفاهم والتلاقي على أهداف مشتركة لخدمة الإنسانية كلها. إن الحملات المسعورة التي انطلقت ضد الإسلام في الغرب عقب أحداث باريس تصيبنا بصدمة بالغة، فالإسلام وحده هو الذي يتعرض للهجوم والتشكيك في عقائده وتعاليمه من جانب الغربيين وسر صدمتنا ووجه استغرابنا يتمثل في أن الإسلام في الوقت الذي جاء يعلن للناس الكلمة الأخيرة لدين الله على الأرض لم ينكر أياً من أنبياء الله السابقين، ولا ما أنزل عليهم من كتب سماوية ولم يجبر أحداً من أتباع الديانات السماوية السابقة على اعتناق عقيدته، ولم يقتصر الأمر على عدم الإنكار، وإنما جعل الإسلام الإيمان بأنبياء الله جميعاً وما أنزل عليهم من كتب عنصراً أساسياً من عقيدة كل مسلم بحيث لا تصح هذه العقيدة بدونه، ومن شأن هذا الموقف المتسامح للإسلام إزاء الديانات السابقة أن يقابل بتسامح مماثل، وأن يقلل من عدد المناهضين للإسلام. ولكن الذي حدث على العكس من ذلك تماماً، فقد وجدنا الإسلام على مدى تاريخه يتعرض لحملات ضارية من كل اتجاه، والتصريحات العدوانية الأخيرة تبين لنا أن هناك جهلاً فاضحاً بالإسلام، وأن الغربيين يخلطون بين تعاليم ديننا وجرائم المتطرفين التي ترتكب باسم الدين وهو منها براء. فهم خاطئ للدين } بعض دعاة الإسلام في الغرب يصورون دينهم على أنه دين جامد وجاف يعادي الحياة ويحرم الإنسان من كثير من الطيبات والخيرات ومظاهر السعادة المحيطة به، كيف تنظرون إلى هؤلاء الدعاة الذين ينتشرون للأسف في كل المجتمعات الغربية؟ الإسلام بريء من سلوك كل دعاة اليأس والإحباط والحرمان، وهؤلاء مخطئون ولا يفهمون الإسلام ورسالته في الحياة حق الفهم، ولذلك هم يسيئون إلى دينهم كل يوم عندما يصورون الإسلام في هذه الصورة المنفرة. ويجب أن يعلم دعاة الإسلام في كل مكان أن ديننا هو دين للحياة بجميع أبعادها، وقد جاء لسعادة الإنسان في دنياه وأخراه، ولذلك فإن واجبهم أن يظهروه بمظهره الحقيقي حتى يحقق رسالته ويقود الناس إلى طريق الهداية والصلاح، والسلوكيات الخاطئة والمرفوضة التي انتشرت في حياة المسلمين في الغرب الآن هي نتيجة طبيعية لنقل صورة غير حقيقية عن ديننا الذي ملأ الدنيا تحضراً وثقافة وسعادة، ولذلك لا ينبغي أن نظهر الإسلام في قالب جامد يعادي الحياة والأحياء، لأن هذا يصرف بعض الناس عنه وتتسع الفجوة بينهم وبينه، ويحرم هؤلاء من هديه. التفاهم الغائب } بعيداً عن حالات التوتر بين الغرب والعالم الإسلامي التي تعقب أحداثاً مؤسفة كالتي حدثت في باريس مؤخراً.. كيف ترى حالة التفاهم والحوار والتلاقي بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي؟ للأسف لا يوجد حوار وتفاهم وتلاق بالشكل الذي نتمناه وندعو إليه، رغم أن ما يشهده عالم اليوم من مشكلات سياسية واقتصادية وبيئية وغيرها من مشكلات يتطلب البحث عن حلول ناجعة لها، وينبغي أن يدفع الطرفين دفعاً إلى الحوار والتفاهم والتعاون والعمل المشترك، والمقصود هنا ليس مجرد التحاور بين بعض الأفراد من أصحاب النيات الطيبة من الجانبين، وإنما المقصود هو التعاون بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وبخاصة على المستوى العلمي من أجل خير هذا العالم واستقراره. ونحن من جانبنا كمسلمين نرحب دائماً بالحوار المتكافئ مع الغرب، بما يعود بالنفع على الجانبين، ونحن لا نريد ولا نقبل بأن يظل الحوار الإسلامي المسيحي حواراً من طرف واحد لأنه حوار طرشان لا يفيد، ومواقف الغرب الجامدة ونظرته الاستعلائية في قضية الحوار تهدر معظم جهودنا، ونحن نريد حواراً حقيقياً يوفر لكل طرف الفرصة كاملة لفهم الآخر والتعاون معه. لكن تجارب الماضي غير المرضية لنا لن تدفعنا إلى التشاؤم وقطع الأمل في إمكان التعاون البناء مع الغرب فكرياً وثقافياً وحضارياً، خاصة وأن كلا الجانبين يشعران الآن أكثر من أي وقت مضى بأن هناك حاجة ماسة تقضي بوجوب البحث عن حلول على الصعيدين الثقافي والحضاري، لتكون على الأقل مكملة لتلك الحلول القائمة على أساس مادي.
مشاركة :