في حضرة التدفق المعلوماتي المنهمر بلا ضوابط ودون عائق أو حاجز لا نملك إلا الاستسلام، فلا رادّ اليوم لهذا السيل المتداعي بخيره وشره إلا عقل راشد وحكمة ووعي مستنير. ولقد وقفت التكنولوجيا اليوم عاجزة عن دفع ومنع الرديء من المحتوى التكنولوجي، فالغزارة وحركة الإنتاج الدؤوبة أربكتا خوارزميات التقنية، وبدأت تتداعى معهما أسوار المنع والحجب، وإننا لنعجب عندما يُمنع كتاب بحجة أو مبرر، فيما هو متوفر على الإنترنت ويمكن تصفحه وشراء نسخة إلكترونية والاستمتاع به. ترهقنا التكنولوجيا الحديثة بالمعرفة والمعلومات، ولا عذر اليوم للجاهل إلا أن يكون راغباً في الجهل، أو الانضمام لثلة الجهلاء. في السابق كانت المعلومات والشخصيات الموسوعية تذهلنا بحديثها أما اليوم فبالإمكان أن تغدو موسوعياً إن أردت، وبالإمكان أيضاً أن تغدو بارعاً في تخصصك إن شئت. إنتاج معلوماتي ومعرفي هائل، وحجم بنوك وقواعد المعلومات تعج بمحتوى ثري فملايين المنشورات والبيانات متاحة في شتى التخصصات، ولا نبالغ إن قلنا إن حالة الانبهار اليوم في عصر المعلوماتية أصبحت عصية على الحدوث. ولو تبينّا مصدر ذلك العلم وتلك المعرفة لوجدنا في الغالب أنهما تأتيان من مصادر غربية وليست عربية، فالإنتاج العربي شحيح بسبب عوامل لا علاقة لها بالتكنولوجيا، والمفارقة أننا في الوطن العربي نستهلك التقنية ومخرجاتها بشراهة لكن إسهامنا في محتواها محدود وفقير، والأمر يعود بطبيعة الحال إلى جدبٍ يعتري المؤسسات المعرفية والتعليمية في العالم العربي، فتلك المؤسسات تقوم على الاستهلاك لا على الإنتاج. وإن من الغرابة أن نرى الجامعات العربية، على سبيل المثال، وهي تستحث همم الباحثين بمكافآت وحوافر لينشروا إنتاجهم وبحوثهم باللغة الإنجليزية، وهذا منتهى الانهزامية. إننا جديرون بإثراء ثقافتنا عبر الترجمة من اللغات الأخرى إلى لغتنا التي تعاني عوزاً علمياً لا أن نقوم بالعكس فنزداد فقراً وعوزاً. في غابر الأيام ساهمت الترجمة من اليونان والرومان إلى اللغة العربية في نقلة حضارية عربية لا نزال نتغزل بها، ونقف على أطلالها، فالعلم والمعرفة اللذان نقلناهما من الإغريق طورناهما لنقدم إنتاجاً علمياً مختلفاً ومتطوراً ومذهلاً. إننا اليوم مدعوون إلى دفع أبنائنا نحو أوعية المعلومات وقيادتهم صوب امتلاك مفاتيح المعارف التي في واقع الأمر متاحة، ولا يقف بيننا وبينها حائل، والحكمة الأثيرة: اطلب العلم ولو في الصين سقطت، وسقطت معها "أمية الحاسب" فكلنا اليوم محوسبون.
مشاركة :