أم الأزمات «المادة 131» من الدستور.. وفروخها الصغار

  • 8/2/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في خريف 1963 شُكِّلت وزارة برئاسة الشيخ صباح السالم رئيس مجلس الوزراء، وضمت مجموعة معروفة من رجال الكويت، الذين لهم باع في السياسة محلياً، وعلاقات متنوعة عربياً، مع اتصالات خارجية، ونظراً لأن أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم كان في مدينة بومباي آنذاك، التي كان يذهب إليها للراحة مع بعض المقربين، فقد أصبح الشيخ صباح السالم نائباً للأمير، وبذلك تولى مسؤولية حلف اليمين أمام البرلمان الشيخ جابر الأحمد، نائب رئيس الوزراء وزير المالية، وعُقدت الجلسة البرلمانية برئاسة السيد عبدالعزيز الصقر، الذي كان رئيساً للمجلس، وعندما بدأ الشيخ جابر الأحمد في طرح الأسماء، فوجئت الكويت بأصوات من مجموعات من النواب تعترض عليها بإثارة نقطة نظام، رافقتها ضجة من مقاعد عدة يعلو صوتها معترضة، ويتوقف الشيخ جابر، فيدعوه الرئيس بالاستمرار في تلاوة الأسماء، وتنفجر الأصوات صارخة بالصياح والاعتراض، وتتوقف الجلسة للمشاورات وتعود بلا فائدة، فقد كان الاعتراض مدبراً وبترتيبات تتوزع الأدوار فيها وفق استراتيجية التعطيل، مع عزم على إفشال هذه التشكيلة، مسلحين بالمادة الـ131 من الدستور، التي تمنع الوزير من ممارسة العمل التجاري، انطلاقاً من مبدأ تعارض المصالح. كانت حالة غير مسبوقة، وضعت الكويت في موقع غير مضمون السلامة، وجاءت في بداية العصر البرلماني، وفي غياب الأمير، وبشكل مفاجئ، وفي مطلع التفاؤل بإبحار الكويت نحو حياة برلمانية منبعها الشراكة في الحكم بين الشعب والشرعية التاريخية، ممثلة بالأسرة، التي أدارت الشأن العام بكل تنوعاته وفق المشاورات والانفتاح، ووثق بها الشعب الذي اختار المؤسس الشيخ صباح بن جابر من بين عدد من المرشحين، ليكون حاكماً منصفاً تدعمه نزاهته وأهليته ومقامه في المجتمع. جاء دستور الكويت من إيمان الشيخ عبدالله السالم، أمير الكويت، بتطوير تقليد المشاورات الذي اعتادت عليه الكويت، إلى صيغة برلمانية يكون فيها الشعب شريكاً، وفضلها على غيرها، كآلية تحافظ على سيادة الدولة وتصون حدودها وترسخ وحدتها الداخلية. كان الشيخ عبدالله السالم، الذي كان على دراية بالمخاطر التي تحوم في أجواء الإقليم وعلى وعي بأطماع الجيران، مسكوناً بالشأن الأمني، مؤمناً بأن أنسب آليات الردع للكويت هي الصيغة البرلمانية الجامعة لإرادة الكويتيين، والمترجمة لوحدتهم والمعبرة عن عزمهم على تأمين استقلال الكويت وصون سيادتها. من هذه الحسابات جاء الدستور بقناعة من أميرها ومن أهلها بقدرة هذا التنظيم على ولادة إرادة كويتية جامعة للتلاحم حول الكويت والدفاع عنها والتضحية لأجلها، وأن هذا التلاحم سيؤمن للكويت تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية، وأهم من ذلك سيوفر للكويت حيوية وطنية تصون سيادتها وتؤمن استقلال خياراتها وفق منافعها وأولويات مصالحها. لم يكن هناك موقع للمعارضة السياسية، لأن الهدف الأسمى خلق آلية الردع التضامنية، فالدستور حركة تجنيد إرادة الشعب الكويتي لحماية وطنه من عبثيات الطموحات الإقليمية، وهو تحفيز للإرادة الوطنية، في أمن وحرية بلا مضايقات مع وعي بمخاطر أي خلاف داخلي وتأثيراته السلبية في تفجير غريزة الأطماع لدى قوى الإقليم، مع يقين بأن أولويات أبناء الوطن تعظيم متانة الجدار الوطني وتأكيد التفاهم والانسجام الداخلي، ولن يختلف أبناء الوطن على آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالمهم حشد الإرادة الوطنية، لأن الكويت تواجه تحدياً في وجودها. كان خيار الشيخ جابر الأحمد رئيس الوزراء بالنيابة لتجاوز الأزمة هو الذهاب إلى بومباي للاستماع إلى مشورة الشيخ عبدالله السالم (أبو الدستور)، أمير الكويت ومؤسس مجراها البرلماني والمؤمن بالمفاهيم التي انطلق منها الدستور، ويعود الشيخ جابر من تلك الزيارة التي انتصرت للبقاء على الدستور وتأمين تواصل مسار البرلمان. وانسجاماً مع هذا الموقف جاءت وزارة مختلفة عن الأولى، معظم أعضائها من التكنوقراط، وبعضهم من ممارسي التجارة بحجم لا يثير. دشنت أزمة «131» فصولاً انفتحت فيها الأبواب للانتقادات والمواجهات، وبأسقف عالية استفادت منها مجموعات المعارضة بكل أطيافها وألوانها، من قبلية إلى أيديولوجية، طائفية، وتجمعات مستقلة، ومن أبرز نتائجها تحولات مغرية للنواب لتبني أسلوب المعارضة لنهج الحكومة، مسلحين بطروحات شعبوية رعوية تغرق المواطن بامتيازات غير مسبوقة، مع خيارات منافعية لشرائح وتحزبات لم تعرفها الكويت، مع ابتعاد يتصاعد حجمه بمرور الوقت عن المفاهيم والقيم الموحدة للمجتمع، وابتعاد واسع عن الجذور والمسببات التي اقتنع بها الشيخ عبدالله السالم لتأمين شحن الهمة الوطنية الموحدة لحماية الكويت، لأنه مسكون بصمود الكويت أمام التهديد الوجودي، عارفاً أن الخلافات الداخلية والتباعد البرلماني والمشي في دروب البحث عن المكاسب ستؤدي إلى تهاون في اليقظة الأمنية الوطنية. أتذكر أن المرحوم الشيخ صباح الأحمد كان في نيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، خلال انفجار الأزمة، وكنت معه في الرحلة، يتابع من هناك تموجات الموقف، فقرر العودة، وأتذكر أنه جاء إلى مكتبه في «الخارجية» في صباح اليوم التالي، وكان أول زواره المرحوم سعود العبدالرزاق، يمثل مجموعة من المعارضة، وانخرط الشيخ صباح مباشرة في المساعي لتجاوز الأزمة. شهدت الكويت خلالها استقالة الوزارة مع تشكيل وزارة جديدة، ثم استقالة رئيس المجلس السيد عبدالعزيز الصقر، حيث أصبح نائب الرئيس السيد سعود العبدالرزاق رئيساً، وسارت الحياة بوزراء جدد، وروح مختلفة، مع قلق يتكاثف في الآفاق. بعد سنوات، قابلت كلاً من المرحوم خالد المضف والمرحوم عبدالباقي النوري، وهما من أبرز النجوم في أزمة المادة الـ131 من الدستور، وذلك في إطار التحضير لكتاب عن حياة الشيخ صباح السالم الصباح أمير الكويت 1965 ـــ 1977، الذي كان نائباً للأمير أثناء الأزمة. جرت المقابلة في نهايات القرن الماضي، وكان رأيهما في مبررات موقفهما أن الكويت خرجت من فصل سياسي ضيق إلى آخر أرحب، بينما كنت أقول إن أزمة «131» أضرت بالفطنة الوطنية المتيقظة التي كان الشيخ عبدالله السالم مقتنعاً بأنها تحمي الجميع من المخاطر، واستحضرت مناخاً وفناءً واسعين للمعارضة، بكل أطيافها، المحلية والعروبية والطائفية، وأجهدت الكويت وهمشت همومها الكبرى، وتولدت منها قوى تحاصر القيادة وتدفعها نحو مصالحها وأولوياتها. وبلا جدال فإن واقع الكويت المتأزم حالياً نتاج الوضع الذي أفرخته حادثة المادة الـ131 عام 1963، وفتحت الأبواب لمختلف أنواع المعارضة في بلد أولوياته ترسيخ الوجود وهوية الاستمرارية التاريخية وحماية تراثها، والفهم العميق لاحتياجاتها للإجماع الشعبي. الدستور ضرورة حياة للكويت ولأهلها، وتجتمع فيه كل المبادئ التي تأنسها الكويت، لكنه في الوقت نفسه يجمع ترتيبات لا تعرفها ثقافة الكويت ولا تهضمها، وتضعف الروح الاجتماعية وتسيء إلى مفاهيم التراث.. هذه الترتيبات غليظة، وأبرزها استعراضية الاستجوابات بخطابات وحشود متعارضة وتدخلات بمفردات غير مقبولة كويتياً، وهنا تبرز جدية النظر في ضرورة ممارسة الترشيق وإبعاد الإجراء الغريب، الذي يوحي بأجواء سينمائية استعراضية، ومن دون هذا الترشيق وإزالة هذه الإضافات الثانوية وغير الجوهرية، تظل الأجواء السياسية غير سليمة، خاصة بين الوزراء والنواب، فمنظر المنصة وتلميع آليات الهجوم النيابي لا يأتيان بما يفيد الكويت. وأقدر أقول إنها غريبة وبعيدة عن الطينة الكويتية، وتحتاج عملية تشذيب الدستور إلى جرأة من مجموعة تضع الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية وتجذير المبادئ النبيلة، التي يجسدها الدستور، أهم من الشكليات التي أضافها خبراء لا علاقة لهم بالتراث الكويتي، وليسوا على علم بحجم الرابطة الاجتماعية بين الكويتيين ورساخة التقاليد التي عشقها شعب الكويت منذ البداية. أزمة الكويت جاءت لأن الممارسة النيابية التي تتبعها المعارضة لا تستجيب للمفاهيم التي آمن بها مؤسس الدستور الشيخ عبدالله السالم، لتحقيق حشد جماعي يصون الدولة ويحمي سيادتها، وفضلت الاستفادة عبر مواجهات وفرتها صيغة الاستجواب، وتهدأ الأمور عندما تتوافر طلائع متعففة تؤكد الأولوية لانطلاق الكويت الحديثة المبتهجة بالانفتاح والراضية بحصيلة التنمية.

مشاركة :