"ياقوتة".. ليس من السهل أبدا أن تكوني امرأة

  • 8/4/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ضمن فعاليات الدورة السادسة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي، قدمت المسرحية التونسية ليلى طوبال عملها المونودرامي الأخير “ياقوتة” الذي تجولت من خلاله في واقع النساء العربيات والتونسيات، وفي قضايا نسوية عديدة تشابكت مع الواقع السياسي والاجتماعي والديني. أهدت المسرحية التونسية ليلى طوبال عرضها المونودرامي “ياقوتة” إلى ذكرى والدها وإلى كل من روحي المناضلتين النسويتين التونسيتين سواء في الساحة الحقوقية لينا بن مهني أو في مجال المسرح والثقافة زينب فرحات، لتكون الشخصية الأخيرة روح الصحافية الفلسطينية شيرين أبوعقلة التي اغتالها الاحتلال الإسرائيلي. وقبل أن ندخل عوالم المسرحية التي تطرح العديد من الأفكار النسوية، فإن وضع ذكرى الأب في الإهداء في خلفية الشاشة دلالة عميقة على أن ما سيقدم من أفكار لا يعادي الرجل باعتباطية، كما تفعل بعض النسويات، وهو ما سيتأكد من خلال الخطاب المتشعب الذي تقترحه طوبال. امرأة وابنتها المونودراما نجحت في أن تقود جمهور المسرح الصعب على امتداد مئة دقيقة وتتخطى الملل عبر تفريعات ذكية سينوغرافيا بسيطة، دمية يضيء رأسها، كنبة تتحول إلى صندوق، وبعض الشموع الحمراء والصفراء المضيئة، وفي الخلفية جذع دمية لعرض الملابس، وطاولتان صغيرتان. تدخل الشخصية المحورية التي ستقود كل تفاصيل العرض عن طريق السرد، تنادي “حل الباب” (افتح الباب). هي امرأة، نكتشف أنها أم، أم بالصدفة، ضحية اغتصاب فشلت في إسقاط جنينها، أم لفتاة اسمها “ياقوتة” أو هكذا أرادت تسميتها حين كتبت اسمها على ورقة بدمها وألصقتها في ملابسها وتركتها أمام المسجد، ليتبناها أحدهم وتسافر العائلة تاركة الأم المكلومة. من هناك تدخل بنا طوبال عبر شخصية الساردة أم ياقوتة في حكايات متشعبة من عالم النساء المخفي أو المسكوت عنه، تحكي عن نفسها الفتاة التي حاول أخوها الاعتداء عليها جنسيا، فعاقبتها أمها، ثم ليلة اغتصبها رجل لا تعرف من هو، وصولا إلى زوجها الذي لا ينفك يشتمها، ويهينها ويضربها ويذكرها في كل مرة بأنها أنجبت في “الحرام” فتاتها، وأنها بلا شرف، يسحب راتبها ويعاملها بكل سوء متخيل، بينما يمرح مع عشيقته. رغم هذه العلاقة المهينة نجد أم ياقوتة (الساردة) تراوح في علاقتها مع الرجل بين الكراهية والحقد واللامبالاة والمحبة أو محاولة البحث عن ذاتها في حب الرجل، نحن إذن لسنا بصدد محاكمة نسوية “معهودة” للرجل، بل أمام خطاب متوازن يحاكم الفعل لا الجنس. حاولت أم ياقوتة استمالة زوجها، حاولت العثور على أنوثتها وذاتها في محاولة حبه، حاولت أن تتجاوز كل إهانة وذل ولكن بلا فائدة، إنها مثال المرأة العربية في النهاية والتونسية بشكل خاص، المرأة التي يقع على عاتقها كل شيء، وكل مسؤولية، حتى عن حماقات الرجال، المرأة المكلفة بالصبر والسكوت والطبخ والاعتناء بالرجل والبيت والأطفال، المرأة المطالبة بالتضحية والعمل خارج المنزل وداخله، في النهارات، وفي الليل تعمل وعاء لإفراغ شهوات الرجل. واقع مأساوي للمرأة تعريه أم ياقوتة بخفة، وهي تسرد حكاياتها، وحكايات أخريات، مثل الموظفة التي يتحرش بها مديرها والشاوش (خادم المكتب) والرجل الضخم في الميترو، وحتى زوجها فهي مطالبة بأن تلبي غرائزه تحت مسمى الواجب دون شكوى، بل في سكوت. السكوت هذا ما يطلب من المرأة. دراماتورجيا وإسقاطات العرض اكتفى بخطابه في سطحه ولم ينفذ إلى أعماق إشكاليات المرأة الحقيقية في تونس والوطن العربي والعالم تتنقل المرأة من قضية إلى أخرى، من جسدها وأجساد النساء إلى قضية الشرف والعادات التي تفرض على الأنثى منذ ولادتها، وصولا إلى زواجها وحتى إلى موتها. وتنجح أم ياقوتة في لقاء ابنتها بعد أربعة وعشرين عاما، لتكون المفاجأة، أو بالأحرى الصدمة، بينما ياقوتة تبقى بلا صوت، فقط صوت أمها الراوية أو الساردة. ونجحت طوبال دراماتورجيا في أن تلعب بإيقاع عملها المونودرامي الذي امتد لساعة وأربعين دقيقة، سواء من خلال الحكي عبر تفرعات كثيرة مليئة بالإسقاطات الاجتماعية والجنسية والسياسية أو حتى بواسطة الإحالات إلى أسطورة الخلق وقصة يسوع. من ذلك حكاية الحيوانات المنوية، التي تلاعبت بها ووسعت أرضيتها لتصبح مساحة لنقد العنصرية (حيوانات منوية بيضاء لا تعامل كنظيرتها السوداء) أو قضايا الهجرة، أو اختلاف طبائع الشعوب من خلال الفرق الجلي بين الحيوانات المنوية اليابانية والتونسية والعربية والفرنسية والإيطالية وحتى الإرهابية، وفي كل تفرع من هذه الحكاية تمرر رؤيتها أفكارها حول الأنا والآخر. لا تتوقف الإسقاطات على الواقع التي تقحمها الساردة في تفاصيل حكاياتها عن النساء والمجتمع، من ذلك حكاية النساء العاملات في القطاع الزراعي اللواتي تنقلهن صناديق الشاحنات إلى الحقول، وفي كل مرة تنقلب إحدى الشاحنات ويذهبن ضحايا بلا ذكرى، فقط يتفاعل معهن المجتمع عبر تغيير صور البروفايلات على فيسبوك، أو تعليق المحرمة، المحرمة التي صارت رمزا للكادحات، حتى هي استغلها السوق وصار يبيعها بثمن يتجاوز أجرة يوم عمل إحداهن. الإحالات إلى الإرهاب والتشدد الديني كثيرة أيضا، علاوة على الوضع السياسي التونسي، في خطاب مباشر يذكر عناصر الساحة السياسية من الترويكا إلى الائتلاف وصولا إلى جبهة الخلاص التي تعارض الرئيس قيس سعيد اليوم وتحاول العودة بالإخوان إلى السلطة بأي ثمن ولو من خلال مساعدة الدول الأجنبية. إنه عالم متشابك، نجحت طوبال في حياكته ببراعة، رغم أنها تقدم شخصية واحدة هي الراوية ولا تتقمص شخصيات أخرى، ولكن حتى في لحظات خفوت إيقاع العرض كانت تقحم القليل من الكوميديا المضحكة من خلال المفارقات، رغم سوادها ودورها النقدي. ليس سهلا أن تقود جمهور المسرح الصعب على امتداد مئة دقيقة في عمل مونودرامي وتنجح في تخطي الملل والتململ، وقد نجحت طوبال بشكل جيد في ذلك، رغم أنها لم تقدم الكثير على مستوى الحركة أو المؤثرات الصوتية أو السينوغرافيا، التي لم يتحرك منها سوى دمية الأرنب والمحارم التي انتزعتها من الدمية الكبيرة التي أهدتها إياها فنانة قبل أن تنتحر وسمتها “أمك طفالة” التي تذكرنا بالأيقونات القديمة التي كانت تحظى بقدسية لدى التونسيين. ويبقى أن بعض العناصر كانت مسقطة نسبيا على العرض مثل المقطع الأخير حول الواقع السياسي التونسي، الذي لم ينجح في التجانس مع بقية عناصر العرض، ثم هناك بعض التفاصيل التي لا تزال تحمل كليشيهات نسوية، تحول الجريمة الفردية إلى فعل جماعي، والشاذ إلى مصدر لبناء فكرة، مثل اغتصاب الأخ لأخته أو قسوة الرجل المفرطة بالضرب والاغتصاب والسحل، أو قتل النساء باسم الشرف، وغيرها الكثير من القضايا التي رغم أنها هامة للغاية ورغم أن المجتمعات العربية لا تزال تعاني منها، فإن تناولها السطحي كما هي لن يسهم في التحرر منها، ومن ناحية أخرى هذه جرائم غير معممة، بينما المعمم على كل النساء تقريبا هو العنف الناعم. لا نقول الأجدر قول كذا أو كذا، ولا نقول بتلك الأقوال الجاهزة التي تتهم أي عمل بالمباشرتية دون وعي أو دراية بأهمية أن تكون مباشرا، متخففا من ثقل المجاز، فاتحا آفاق تأويل كثيرة، لكن ربما هنا في هذا التفصيل بالذات تعثر العرض، حيث اكتفى بخطابه في سطحه لا أبعد من ذلك، ولم ينفذ إلى أعماق إشكاليات المرأة في تونس والوطن العربي والعالم، وحتى الجمل التي حاولت أن تكون شعرية عبر الفراشات والعصافير والأشجار، فإن الشعرية بعيدة عنها، الشعرية لا تستحق البراءة المصطنعة والمركبة، بل تستحق نظرة تأمل طويلة إلى الأشياء والأفكار والحالات، تأمل سنوات قد يخرج في كلمة، وهنا التكثيف الذي كان يمكن أن يستفيد منه العرض.

مشاركة :