بقلم: د. غريب جمعة الحلقة الثانية وكيف لا يكون هو الحي القيوم وكل شيء في هذا الوجود من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة إنما هو قائم بعلمه وإرادته وحفظه ورعايته، والحقيقة أن القيوم تدل على جلال قيوميته وكبير هيمنتها وسلطانها وليس في الوجود كافة في أي عالم من عوالمه سواه سبحانه ولو غفل عن هذا الوجود وطرفة عين أو أقل من ذلك لتداعي كله بعضه فوق بعض وزال تماما لذلك كانت الجملة التالية وهي: الثالثة: «لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ»: لما كانت حياة الحي وقيومية القيوم لا تدل بطريق مباشر على استمرار التيقظ لكل شيء على أكمل وجه وانتفاء الغفلة ولو في لحظة ما جاءت هذه الجملة لتصفه تعالى بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، أي حياته وقيوميته لا تفترقان في وقت ما فلا يمكن أن تغاليه سنة وهي تباشير النوم ومقدماته حينما يقبل على الجفون فيداعبها وعلى الشعور فيخدره ولا نوم وهو أشد من السنة قهرًا للأحياء وغلبة عليهم واخذالهم. يقول صاحب تفسير التحرير والتنوير: «ونفى استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التقدير وإثبات لكمال العلم، فإن السنة والنوم يشبهان الموت فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة وهما يعوقان عن التدبر وعن العلم بما يحصل وقت استيلائهما على الإحساس ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأن من الأحياء من لا تعتريه السنة، فإذا نام نام نومًا عميقًا ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة عليه» أهــ(1). لذلك كان لا بد من الجمع بينهما في النفي وهذا ما فعلته الآية الكريمة. الرابعة: «لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ». جاءت هذه الجملة لتقرير أن الملك الحقيقي ينفرد به الله جل جلاله دون سواه وتقرير الملك شيء جديد بعد إثبات الحياة والقيويمة. وخسر وخسئ من يظن أن لسواه سبحانه ملك ذرة أو ما دون الذرة في عالم من العوالم إيجادًا وإعدامًا أو زوالاً وبقاء، أو تصريفًا وتحويلاً أو تغييرًا وتبديلًا تعالى الله عن ذلك علواً كبيرًا. الخامسة: «مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»: جاءت هذه الجملة لتنكر أن يكون لأحد أمر مع هذا الحي القيوم المالك، فقد كانو يعتقدون أن ما يتخذونه من آلهة سيكونون شفعاءهم عند الله، فأنكر الله عليهم ذلك لأن شفاعة الشافع إما أن تكون عند سلطان عادل أو سلطان جائر، فإن كانت عند سلطان عادل فشأن الشافع أن يقول له: إنك فعلت ما فعلت اعتقادًا منك بأنه هو المصلحة ولكني أعلم أن هذا الذي أشفع فيه معذور بكذا أو لم يقصد كذا، فإن قبل منه صاحب السلطان ذلك كان ذلك لأنه علم ما لم يكن يعلم من أمر المشفوع فيه وهو أمر لا يليق بالله تعالى لا هو الجهل بعينه. وإن كانت الشفاعة عند سلطان جائر فيجوز أن يقبلها ويترك الذنب لأجل مرضاة الشفيع وذلك إفساد لا يليق مع الله تعالى. وكذا ليس في الوجود أحد يشفع أي شفاعة مهما كانت وكيفما كانت إلا من بعد أن يأذن الله ويرضى وهي شفاعة موقوتة موزونة مقدرة بتقديره وإرادته وعلمه وقدرته. ومن شفع بإذن الله إنما الله هو الشافع وإنما هذا الإذن يدل على شرف الشافع وجلاله عند ربه وحبه له وتقديره وإلا فالشافع والمشفع هو منه وإليه تعالى وليس لسواه من شفيع إلا الله كما أن السعادة ستنال المشفوع له بلا ريب. (وإلى حلقة قادمة إن شاء الله)
مشاركة :