تسعى السورية سندس برهوم في روايتها عتبة الباب إلى تصوير الآثار العميقة التي خلفتها وتخلفها الحرب الطاحنة الدائرة في سوريا على أولئك الذين يعيشون تفاصيلها ويومياتها، ويحاولون تكييف أنفسهم على إيقاعها. وتعكس عتبة الباب ما تفرضه الحرب من عادات جديدة في حياة من يعيشها ومدنهم، في تنقلهم ونومهم وأحلامهم وسعادتهم وصداقاتهم وعداواتهم، وفقدان الأمن والأمان في كل زوايا الوطن، من عتبات أبواب المنازل إلى مداخل الحدود وسماء البلاد التي أصبحت ملعبا للطائرات التي تلقي حممها هنا وهناك. تنقل ما يعترك فيها، وتصور واقع عدة مدن سورية بعد الثورة التي دخلت مرحلة التسلح، والانقسام المريع الذي اجتاح المجتمع السوري، بين مؤيد للنظام ومقاتل معه، ومعارض له مقاتل ضده، وكيف أن السلاح يدمر كل شيء. جنون الحرب تختار برهوم بطلتها لور من الأقليات في سوريا بعد أن أصبح الحديث بطريقة التصنيف المذهبي والطائفي والإثني في البلاد، تعيش في دمشق برفقة طفليها وزوجها، تحلم بحياة هادئة سعيدة بعيدة عن جنون الحرب. تعيش لحظات الموت وتشعر بنفسها كأنها أصبحت شخصا آخر، تعاني من القلق والكآبة، تحرص على ألا تسرب مشاعرها السلبية إلى طفليها، وتتشبث بتماسك أسرتها لتجاوز المرحلة العصيبة، لكنها تقع بين الفينة والأخرى رهينة وساوس ومخاوف تفتك بها. تتأثر حياة لور بما يحدث حولها من ظروف تجبرها على التأقلم معها، تقلل من طلباتها، تكتفي بالضرورات الحياتية، تصب كل اهتمامها على أسرتها لتنقذها من الموت الوشيك الذي يتربص بها في كل الزوايا. وبعد مناكفات ومماحكات بينها وبين زوجها تصل إلى قناعة بأن عليها الخروج من البلد وإنقاذ ولديها من طوفان الحرب ومستنقعات الدماء، وإذ تقرر ذلك تبدأ رحلتها لإعادة اكتشاف واقعها ونفسها، تبدأ بما تفترض أنه توديع لأصدقائها وأهلها، فتتحول تلك اللقاءات إلى براعم تزهر أملا في روحها، وتخفف عنها توترها وتبدد شيئا من قلقها، وتجد أن الخلاص الفردي قد يكون هروبا لا يجدي، وأن الأجدى التخطيط للبناء عن طريق حب الأسرة، والأهل والأصدقاء والوطن، ليعم الدفء كل الأرجاء، وهو حلم لا يخلو من رومانسية. بالموازاة مع التنقل بين عدة مدن سورية، انطلاقا من العاصمة دمشق مرورا بحمص وحماة، وصولا إلى اللاذقية التي لا تزال تنعم بأمان موقوت تلتقط الروائية الخلافات بين أهل المدن والتقسيمات الجديدة التي فرضها واقع الحرب، وكيف أن أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، وأن هناك من كانوا أهلا وجيرانا حملوا السلاح ضد بعضهم بعضا، وقاتلوا وقتلوا في المعارك التي خاضوها، وتبرز أن الخاسر الأكبر جراء ذلك هم الأطفال الذين يكونون أمل المستقبل، في حين يتم الإيداء بطفولتهم والقضاء على أحلامهم. إشارات الخيبة تسرد برهوم حكايات من معسكرين متناحرين على الرغم من ميل بطلتها المبطن لصالح النظام، وتلتقط إشارات الخيبة على وجوه أمهات ضحايا الحرب، وتصرح على لسان لور بأنها لا تريد لأبنائها أن يكونوا وقودا في هذه الحرب اللعينة، ولا أن يكونوا قاتلين أو مقتولين، وأنها تخطط للهجرة ملاذا على الرغم مما توقنه من مرارة الغربة ومحنة اللجوء، ومخاوف الأم من فقدان أولادها هناك بدلا من حمايتهم، وكيف أن الدول التي تزعم حماية اللاجئين تساهم بتأجيج نيران الحرب في بلدانهم. تعترف بطلة الرواية بأنها متشبثة ببيتها، والبيت هنا رمز للمكان والأرض، تصف عتبة الباب بأنها قوية كالهواء، وكرائحة التراب، وتراها تحرض الراوية على تسليم المرأة دفة القيادة ردا على لجوء الرجال إلى العنف والقسوة والحرب، وتجد أن الأمومة هي الكفيلة بإنقاذ الأسرة والبلد، لأن الأم لا ترتضي لأبنائها كل هذا الاقتتال والدمار، ولا تستطيع تحمل قسوة الواقع وعنفه. وهي إذ تفكر في صور ضحايا الغازات الكيميائية في ريف دمشق تنتابها مخاوف قاهرة توقعها في أسى مديد، ولا تنفك تتخيل أولئك الأطفال أطفالها، وتشعر بشعور أمهاتهم، ترمز إلى أن قلوب الأمهات هي السلاح الأمضى لإحلال السلام. تنوه برهوم بأن الخلاص يكمن في تعميم الحب وتسييده، وتؤكد على دوره في ترميم الجراح، ذلك أن الكره يقود الأفراد والجماعات للوقوع في براثن الثأر والانتقام، ويبقيها في دوامة الاحتراب، ويغلق أي آفاق محتملة أمام حلول السلام والبناء، ومن هنا تجد أن الحضن الأسري هو النواة المؤسسة لحب تتسع دوائره باطراد لتشمل فئات أكثر وأشمل، وتخفف درجة الاحتقان المتفاقم والبغض المتعاظم.
مشاركة :