سفر الحب والحرب في رواية نسوية سورية بقلم: وارد بدر السالم

  • 9/3/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

الكاتبة السورية إيناس عزام تستعرض جانباً رومانسياً من حياة امرأة في زمن الحرب، وهو الجانب الأكثر حيوية في مسار الرواية. العرب وارد بدر السالم [نُشر في 2017/09/03، العدد: 10740، ص(12)]إيناس عزام: مازال للحب أرض وسماء في لغة الكتابة يبدو أن الأدب السوري الحديث بشكله العام في مخاض عسير، مثلما أن التجارب الأدبية الجديدة تخوض محاولاتها تحت معطف ثقيل لا سيما السرد الروائي منها الذي يواجه صعوبات غير محدودة في احتواء أزمة الحرب وتداعياتها المجتمعية الكبيرة التي لا يمكن إغفالها بأيّ حالٍ من الأحوال. السرد بطبيعته ممتد وواسع لا يكتفي بشريحة ضوئية عابرة كالشعر ليؤسس عليها موقفاً من هذه الحرب أو تداعياتها، وبالتالي فالسعة السردية المطلوبة هي احتواء أسباب ونتائج الحرب حتى الآن، لا بطريقة التوثيق المباشر ولا بالشعارات المألوفة في أدب مثل هذا ليخرج عن قيمته الفنية، لكن بالشكل الذي يكون فيه قادراً على رصد الإنسان في يومياته المرتبكة ومحنته الغامضة في حرب ما تزال تدور رحاها منذ نحو سبع سنوات، وهذه الزمنية في الحرب قد لا تكون كافية تماماً لإنتاج سرديات كبيرة تحاكي اليوميات السورية التي وُضعت في مختبر الحرب من أطرافٍ مختلفة. مثل هذا التصور الأوّلي عن الكتابة التي تخرج عن تجربة مأساوية بكل ما فيها من تفاصيل ثقيلة الوطأة اجتماعياً ونفسياً هي الاختبار الممكن الذي ربما نقرأ فيه بعض التجارب المحلية التي توفّرت على بعض الشروط الفنية في معالجة ثيمة الحرب ومخلّفاتها المتوقعة على الصعيد الإنساني العام. ولذلك وعلى قلة السرد الجديد سنجد التماعات معينة متفرقة هنا وهناك بعيداً عن المؤثرات الرسمية التي يمكن أن تعيق تدفق الكتابة بوجهها الفني المطلوب والتوثيقي الحِرفي في معالجة همّ الإنسان السوري وهو يواجه محنة الحرب بأشكالها المتعددة. هذه الرواية “بين نهرين.. أسفار في العشق والرحيل” رواية جديدة صدرت عن دار البلد في السويداء للكاتبة إيناس عزام وهي تجربتها الروائية الأولى بعد كتابات في القصة القصيرة لم تجمعها في كتاب؛ إنما آثرت أن تبدأ حياتها الأدبية برواية حملتْ معها رمزها “البَيْني” لنهرين عظيمين تاريخيا هما دجلة والفرات في قصة عشق تثير إشكاليات رمزية ومعنوية شاءت الكاتبة فيها أن تستعرض جانباً رومانسياً من حياة امرأة في زمن الحرب، وهو الجانب الأكثر حيوية في مسار الرواية لِما له من حساسية سردية في الإفصاح عن خلجات أنثوية كامنة في الضمير الجمعي العام، وهو ما أرادته الكاتبة أن يكون مفتاحاً سردياً شاملاً عبر تجربة العشق التي قادت إلى السفر والهجرة والاغتراب، ومن ثم توطّنت فيها روح الأسئلة الكثيرة والكبيرة عن جدوى مثل الفوضى الاجتماعية والأخلاقية في “وطن ثقبَ جوفي قبل روحي” وهي أسئلة ذات طابع عدمي “لست أدري كيف يستوعب الوطن تناقضاته؟” . وبالتالي خلقت فيها روح الاعترافات المضنية وهي تهاجر إلى مدينة أخرى بحثاً عن علاقة مزدوجة لشخصية مهاجرة مركّبة نفسياً حملت اسماً رمزياً “فرات” بسبب قصيدة له، لكنه احتمى بـ”يوسف” كاسم واقعي مع الحمولة الدلالية لرمزية الاسم، فأصبح “شخصيتين” في شخصية واحدة لهما فعل واحد، لكن يبقى الأول “فرات” كذاكرة بينما يمضي الثاني سردياً في هجرته الطويلة من دون هدف واضح سوى الخروج من أزمة الحرب؛ غير أنه -في التأويل السردي- سيقتضي أن يكون هو “دجلة” أيضاً ليكون النهران على خط شروع واحد نفسياً وواقعياً لتكون “بين نهرين” علامة روائية بلا ارتباك في التفسير لهذه الشخصية التي أخذت مساحة شبحية واسعة من السرد.الرواية تنقل قصة حب مدينة ووطن أكثر من كونها تشخيصاً لعلاقة ثنائية بين رجل وامرأة، وأكثر من كونها قصة هجرة تسببت بها الحرب فرات-يوسف العراقي المهاجر بعد الحرب التي أسقطت النظام العراقي السّابق وبعد الفوضى الأمنية التي رافقت العملية السياسية المعروفة، يحمل معه نبوءة الخراب حينما حلّ في دمشق، فنقل معه بذرة الهجرة إلى الصوت السارد وبالرغم من العلاقة الرومانسية التي تناولتها الكاتبة بجرأة فنية، إلا أنه شكّل صوتاً مرادفاً لصوت الأنثى التي أحكمت النسج الفني حتى النهاية فظل شبحاً عائماً غير فاعل في الأحداث إلا حينما يستدعيه الصوت الآخر، ولعل المهيمنة السردية الواحدة التي ظلت تلاحق الأحداث كانت سبباً في تهميش هذه الشخصية، فالصوت الواحد الذي جمع سرديات الأحداث أخذ على عاتقه تقديم وتأخير بعض الشخصيات مهما كان فعلها هامشياً أو رئيسياً. صوت الأنثى الصوت الواحد المهيمن على الرواية هو صوت الأنثى الراوية التي وزعت الأدوار تحت غطاء اللغة بشفافية عالية، وهي الأنثى التي تجد أنّ لا علاقة لها بالحرب كونها من مدينة جبلية ومن طائفة دينية لا يقع عليها وزر الحرب مباشرة، لكنها تحاول أن تقاوِم انعكاسات الحرب ومعطياتها التي أخضعت الجميع لسطوتها وقسوتها ونتائجها. فهي بالنتيجة تجد نفسها في خط الحرب الأول وفي نتائجها المباشرة، لتؤكد أن الجميع طالتهم الحرب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية والقومية “كنتُ أينما اتجهت في أرجاء الوطن يعرفون أنني ابنة تلك المدينة من بريق عينيّ فقط حينها لم أفكر إبراز هويتي..” وهذا التأكيد الذي يتكرر يشير إلى طائفة سورية ابتعدت عن الحرب نسبيا بفعلها المباشر لكنها أجهِضَت نفسياً في وطن يتزاحم الموت على حافاته كما اعتمرها الخوف الطبيعي لزمنية الحرب التي لم تنتهِ وليست هناك بوادر لإنهائها حتى زمن كتابة الرواية، وهو زمن تدفق فيه صوت الساردة -الصوت الواحد بشعرية عالية وهي تتأمل سقوط الكيانات الاجتماعية وعدم ثباتها بمواجهة الكثير من الاحتمالات التي تحقق بعضها بالفعل “يبدو أن المدن ليست أكثر من قرط ستسقط لحظة جنون” (ص 14).تجربة عشق قادت إلى السفر والهجرة والاغتراب تحبير رثائي إحدى عتبات القراءة لهذه الرواية هي الإهداء “المدينة القابعة تحت الجلد أبداً.. دمشق أولاً وأخيراً” وهو انتماء مكاني لحاضنة تاريخية ظلت محور الرواية بقصدية من دون تصريفات هامشية بوصفها المتن الأكبر كمدينة خارجة من رمزيتها المعروفة وقع الثقل النفسي عليها وليس العسكري، فهي مدينة ماصّة للصدمات التي تدور في أمكنة متعددة من البلاد، لكنها “دمشق المسيّجة أبداً بالياسمين ما عادت دمشق” . وهذه النظرة الغريبة الجديدة للمدينة كانت كافية لأن تثير التوجس والريبة في إبراز حالة من الخصوصية لها كمدينة حرب دخلت فيها تفصيلات جوهرية بمناخ سياسي آخر “فأنت متلبس بتهمة الشارع إذا ما وُجدتَ فيه وأنت مجرم إذا ما أشهرت أوراقك وأنت خائن إذا ما عبرت عن رأيك..” لتكون دمشق المتوارية خلف المتاريس آخر حلم مجهَض في رؤية مباشرة للساردة، وهي رؤية تقاطعت كثيراً مع أكثر من رؤية ياسمينية لهذه المدينة ذات العمق التاريخي، والرومانسي الذي أكدت عليه الكاتبة مستحضرة مساحات واسعة من الحلم الجميل الذي كانته ذات يوم “امرأة على الرغم من قصر قامتها إلا أن قامة الكلام لديها شاهقة” وهذه القامة الشاهقة رأت تحوّلات المدينة فكتبت هذه المرثية المؤلمة لها بطريقتها التي انغمرت بروح الشعر كثيراً “امرأة تجيد استخدام الحبر أكثر من كحلها” وهذا التحبير الرثائي هو جوهر البناء الحزين الذي رافق هذه السردية إلى النهاية. ستبدو هذه الرواية قصّة حب، وربما هي كذلك، لكنها قصة حب مدينة ووطن أكثر من كونها تشخيصاً لعلاقة ثنائية بين رجل وامرأة، وأكثر من كونها قصة هجرة تسببت بها الحرب، سواء عند يوسف العراقي المثقل بأعباء وطنه أو الراوية التي أدارت أحداث الرواية الدمشقية بطريقة فيها من الشفافية والشعرية ما جعلنا نراها قصيدة طويلة ومرثية تاريخية. كاتب من العراق

مشاركة :