ما أحوج إنسان اليوم، وبشكل أكثر من السابق، إلى الاقتداء بنصيحة سقراط "اعرف نفسك بنفسك"، أقدم حكمة فلسفية في العالم، في مجتمع مصاب بالاتصال المفرط. فلو جاز توصيف التقدم الذي صنعه الإنسان، خلال القرن الماضي، في كلمة واحدة، فستكون هي، التواصل. فالظاهر أن الثورة التكنولوجيا أحكمت قبضتها على الإنسان، من الراديو نحو التلفاز ثم الهاتف النقال وصولا إلى الإنترنت، ليجد المرء نفسه في تواصل مستمر ودائم في العالم والآخرين ما عدا أنفسنا. كرر بليز باسكال، الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي، النصيحة ذاتها، في مؤلف صدر بعد سبعة أعوام على وفاته، بعنوان "أفكار"(1669)، ضمنه نصائح وخواطر حول الطبيعة الإنسانية. يبقى أغرب ما جاء فيه على الإطلاق، بالنظر إلى زمن التأليف، حديثه عن خطر أن تكون متصلا بالآخرين. فوفق باسكال، "كل مشكلات البشر تنبع من عدم قدرتهم على الجلوس بهدوء في غرفة وحدهم"، إنها دعوة صريحة من فيلسوف شاب إلى العزلة والاختلاء بالذات، في عصر بدائي تواصليا "القرن 17" مقارنة بهذا القرن. يفسر الخبراء حرص الأفراد على الاتصال المستمر بكونه هروبا من الحقيقة، إذ بمقدور المرء أن يمضي كل حياته خلف الأقنعة، دون أن يمتلك الجرأة الكافية لمواجهة نفسه. فإدمان الإنسان التواصل ليس لشيء مميز يرضيه، بل خوفا من حقيقة مواجهة الذات، أو كما يزعم هؤلاء فرارا من الشعور بالملل، فتخيل وجودا بلا شيء أو فعلا يعادل، في نظرهم، العدم واللاشيء. يبقى هذا الادعاء بلا أسانيد تشده، فالوحدة ترادف العزلة التي أضحت ضرورة ماسة في وسط فوضى الحياة المعاصرة. ولا تتردد طائفة في القول بأنها الأصل في الطبيعة، فالزعم بأن "الإنسان كائن اجتماعي" مجرد نتيجة لاحقة عن الشعور بالوحدة. هكذا تكون العزلة عنصرا أساسيا لإشباع دوافعنا نحو التفرد والاستقلال، في زمن صارت فيه العزلة فنا مفتقدا في المعيش اليومي، فإنسان اليوم يعجز عن ممارسة طقوس العزلة، حتى ولو كان وحده جسديا. يوشك واقع الإنسان المعاصر أن يتطابق مع قول الأديب التشيكي فرانس كافكا، الذي انعكست عزلته التي اشتهر بها بجلاء في نصوصه الإبداعية، "خجلت من نفسي عندما أدركت، أن الحياة حفلة تنكرية، وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي". يتيح محراب العزلة لصاحبه فرصة كشف مكنونات الذات بعيدا كل البعد عن أوجه الزيف الكثيرة، ما حدا بالأديب اللبناني جبران خليل جبران إلى القول، "إن العزلة تدعونا لشجاعة معرفة ذواتنا". تختلف العزلة عن الوحدة، فالأولى يراد بها ذاك الوضع الإنساني الذي يختار فيه المرء نفسه لرفقته، بهذا المعنى تكون العزلة مقترنة بالتفكير. وهذا ما عبرت عنه الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت بقولها، "العزلة هي الموقف البشري الذي أبقى فيه على صحبة نفسي"، بمعنى أن الذات الداخلية تبقى حاضرة يمكن إجراء محادثة معها، فذاتك، في نظر أرندت، هي "الشخص الوحيد الذي لا يمكنك الابتعاد عنه إلا حين تتوقف عن التفكير". أما الثانية، فتتحقق حين يكون المرء وحيدا بلا أي رفقة، سواء رفقة الذات أو الآخرين، رغم رغبته فيها، لكن لا يستطيع إيجادها. قد يبدو خيار العزلة بسيطا في نظر كثيرين، لكنه قطعا ليس كذلك بالنسبة إلى الجميع، فخبراء التحليل النفسي يتحدثون عن أن هذه العملية الداخلية العميقة تتطلب امتلاك "القدرة على أن يكون وحدك". فما أكثر المواقف التي توفر للفرد فرصة العزلة، لكنه يصر على تلافيه، "ففي كل مرة يكون لدينا فرصة للجري، نقوم بوضع سماعات الرأس في الأذن. وفي كل مرة نجلس في السيارة نستمع إلى الموسيقى...". تتيح العزلة للمرء فرصة سانحة لرؤية أخرى للذات والعالم، وعد الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي "العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله". قول أيده توماس ميرتون أوكسو، الراهب الأمريكي الذي عشق العزلة، وصاحب مؤلف "خواطر في العزلة" الذي رصد فيه تجربة أعوام من الاعتزال، بقوله، "لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلا". وقد أنزل الشاعر محمود درويش العزلة منزلة خاصة، في نص "لو كنت غيري"، في ديوان «أثر الفراشة» (2008)، حيث عد أن العزلة هي "كفاءة المؤتمن على نفسه"، مشيرا إلى أن القدرة على أن تكون وحيدا "هي تربية ذاتية. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي... أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة... العزلة مصفاة لا مرآة". لا جدال أن العصر الحديث لم يعد يتيح فرصة لعزلة الحكماء أو الكهان أو القديسين، فمهما كان الفرد وحيدا بجسده ستخترق التكنولوجيا عزلته، فطوفان الحشود يتزايد ممعنا في حصار هوامش التفرد والانكفاء. يبقى الجميل في الأمر أن كسر الحاجز الأول في تمرين العزلة يمنح صاحبها قوة وزخما تدفعانه نحو إعادة الكرة مرة أخرى، وهكذا دواليك يصبح التمرين على العزلة أقرب إلى تكريس الذات للاعتناء بالروح. في زمن الاتصال المفرط أو السيولة في التواصل، أي التواصل الذي يكون بلا غاية ولا هدف، تصبح العزلة فنا لا يتقن أصوله إلا أقلية، تستطيع تحويل لحظاته إلى إلهام مثمر. نعم، فلولا العزلة التي يحاول أبناء هذا العصر جاهدين التغلب عليها، ما أبدع شكسبير روائعه، وما كتب جوته أعماله الخالدة... وغيرهم كثير ممن تقبلوا إحساسهم بالعزلة واستثمروه بدلا من محاولة الهرب منه.
مشاركة :