فكرة اللحاق بالحضارات المتقدمة تشبه -إلى حد كبير- شابا يحاول عسف فرسٍ أصيلٍ، كلما تأخر الشاب في اعتلاء فرسه؛ نفر منه وزادت مخاوفه، فتستعصي عليه المحاولة، وفي المرات التالية يتملكة الخوف شيئاً فشيئاً مع كل محاولة فاشلة، ليزداد الموقف صعوبةً على الشاب الحالم بالفروسية، ويبقى السؤال يلاحقه.. متى يمتطي فرسه؟ الأحلام تحتاج إلى الفروسية أيضاً، مزيج من المبادرة والجموح والقيادة، خليط من الخيال والواقع، معادلة طرفاها التخطيط والمخاطرة، فإذا كانت الأحلام تتعلق بالوطن تعبت في مرادها الفرسان، فالبنى التحتية والفوقية ليست محفزة من حيث الأنظمة والقوانين. المملكة تمر بتحديات كبيرة، تفرضها دوامة عدم الاستقرار في الدول المحيطة للمملكة ومسؤوليات السعودية تجاه دول الجوار، وأسعار النفط تنجرف إلى مستويات دون هدف إيقاف النفط (الغالي) من تدمير الأسواق، وما سيترتب عليه من ضرورة إيجاد آلية للإمساك بزمام السوق على المدى المتوسط، والتحول الذكي إلى ما بعد النفط على المدى البعيد. إلا أن القرار الأهم الذي يتطلبه فرس الرهان هو الشاب المتعثر (ذاته) الذي يحتاج إلى تأهيل؛ لمواجهة حقيقة عدم كفاية مهاراته، وفهم مسؤولياته الوطنية دون تهويل، والعمل على تحقيق هدف وطني بعيد المدى واضح المعالم وأقرب إلى الواقع من أية محاولات (بهلوانية) على المدى القصير. المملكة تحتاج اليوم إلى تقديم برنامج وطني حقيقي؛ لانتشال التعليم من غياهب الجب الذي عشنا فصوله في المدارس والجامعات، وقهر الرتابة التي بلّدت مشاعر الطلاب، وترشيد النظام البيروقراطي الذي أنتج معلمين ومعلمات في صورة لا تتناسب مع القرن الحادي والعشرين وربما الماضي أيضاً. في الغرب من السهل أن تؤمن خلال أسبوع من الدراسة بأن تغير النظام ليحرك الجمود ويحقق التفاعل بين الطالب والمدرسة أو الجامعة، ويشحذ همم الطلاب والمعلمين نحو هدف التنمية أهم بمراحل من استنساخ المناهج الغربية وتحويلها إلى كلمات متقاطعة تحفظها وتدرّسها عقول مشغولة بالإجازات. التخطيط لمستقبل شاب مسكون بالمخاوف والإحباطات، قلق على مستقبله إن امتطى فرسه أو لم يمتطه، لا يعرف وجهته، ولا يثق في قيمه، مهمة ليست بالسهلة بحيث يمكن لوزير التعليم وعمداء الجامعات أن ينجزوها باجتهادات فردية أو أحلام مجردة عن السياق الذي نعيشه اليوم نتيجةً نظم تشترك فيها الوزارات والهيئات والمؤسسات الوطنية. المواطن بحاجة ليرى ويسمع ويقرأ ثم يعي ويؤمن برؤية وطنية موحدة تنتظم وتلتزم بتحقيقها كافة مؤسسات الدولة بشكل مباشر، والقطاع الخاص عن طريق قوانين محفزة لتحقيق أهداف التعليم وبناء المواطن الشريك في التنمية، وبالأخص الصناعات والخدمات الجوهرية التي تستعد المملكة للرهان عليها في المرحلة المقبلة، وإيجاد العمق المهني الملائم للشاب السعودي في الوظائف الحيوية. من الجيد أن تخرج الجامعات طلاباً في التاريخ والجغرافيا في بريطانيا مثلاً فهؤلاء يصبحون فرساناً بعد الحصول على دبلومات في السياحة والآثار في مؤسسات السياحة والمتاحف وغيرها، أما إذا حصلوا على دراسة عليا في الإعلام فسيعملون مراسلين دوليين لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)؛ بناءً على فهمهم العميق للثقافات والحضارات والسياقات المهمة للشعوب، لكن تخريج طلاب الاجتماعيات في المملكة لا تحفز الشاب على أن يكون فارساً إلا من رحم ربي. المواطنون بحاجة لمهن يتوفر لها العمق وحوافز للمستقبل أكثر من الحاجة لوظيفة هامشية بمسمى (جالب فيز) براتب 7000 ريال، ولو ركزت وزارة العمل -على سبيل المثال- على سعودة مهنتين فقط ذات مسار وظيفي واضح كل ثلاثة أعوام، ونسقت في ذلك مع وزارة التعليم والجامعات تحديداً؛ لكان أجدى من تشتت الرؤى والأهداف بين التعليم والجامعات وسوق العمل. هذا الحلم ليس إلا أحد الأحلام الكثيرة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بخطة تنموية تنطلق من الحاضر إلى المستقبل ثم لا تستثني وزارةً أو جهة، ثم لا تترك تفصيلاً إلا وتطرحه لعامة الناس ليحلم الجميع بذات الهدف، ويناقش الجميع ذات الفكرة ثم يحاسب الجميع المقصر، ألا تحتاج هذه الأحلام إلى فروسية؟.
مشاركة :