كم فارساً يمكن أن يمتطي ظهر السيسي؟ "إن الوعد الذي قُطع كان من ضرورات الماضي، وخيانة هذا الوعد الآن من ضرورات الحاضر" - ميكافيللي. كان الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي منذ ثلاث سنوات محل ترحيب دول عدة، بسبب مواقف الرئيس مرسي الواضحة التي تتعارض مباشرة مع سياسات هذه الدول، وكان رأسمال السيسي في مخاطبة هذه الدول أنه سيمنع مصر من السير قدماً في هذه السياسات. لكن هل يمكن للسيسي أن يخدم كل هذه المشاريع المختلفة في ذات الوقت، حتى لو لعب على كل الحبال وصوّت لمشروعين متناقضين في مجلس الأمن؟ للحظات، بدا أنه بإمكان الحصان أن يحمل كل اللاعبين الإقليميين والدوليين فوق ظهره، لكن الحصان يبدو أنه في أمتاره الأخيرة، ولا يستطيع أن يحمل كل هؤلاء فوق ظهره، فتساقطوا تباعاً وبشكل سريع من فوقه، وبقي فارس واحد فقط فوق ظهر هذا الحصان. لكن فارساً واحداً فيما يبدو لا يكفي لنجاح هذا الحصان في ذلك السباق الطويل! *** 1 - حصان واحد رغب في امتطائه الكثيرون: بانتهازية شديدة، وبطمع غير محدود، وبحكم عمله في الاستخبارات العسكرية لفترة طويلة، وعلاقته الخاصة بأميركا وعلاقته الحميمية بإسرائيل، وعمله السابق في دول الخليج، أدرك السيسي أن مواقف الرئيس مرسي لا ترضي الكثيرين، وأنهم سيرحبون بأي انقلاب عسكري يقوده السيسي عليه في مصر. الخليج: كان غير مرحب بأي ديمقراطية في مصر، تهدد عروشه المستبدة، ولا سيما تلك الديمقراطية التي تأتي بالإخوان إلى سدة الحكم، وهي الجماعة السّنية الكبرى التي تراها السعودية فيها منافستها الرئيسية على زعامة العالم السني. إيران: كانت منزعجة من وجود الرئيس مرسي، الذي ترحم على الصحابة في قلب طهران، وجعل القضية السورية على أولوية اهتماماته، وصرح في مؤتمر جماهيري أنه لا مكان ولا مجال لحزب الله في سوريا. وقد بلغني أن الشيعة في المنطقة الشرقية في السعودية قاموا بتوزيع الحلوى عقب الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي. إسرائيل: كانت لا تنام بشكل جيد أثناء حكم الرئيس مرسي، حسب الكثير من التصريحات التي خرجت من مسؤولين إسرائيليين، فمرسي تجنب ذكر "إسرائيل" في جميع خطاباته، وأعلن أنه لن يترك غزة وحدها، وأرسل رئيس وزرائه إلى القطاع أثناء العدوان الإسرائيلي، وحصلت المقاومة الفلسطينية على كميات كبيرة من السلاح في العام الذي حكمه. أميركا: كانت ترى في الرئيس مرسي الرجل الذي يحقق لمصر الاستقلال الحقيقي، والخروج من الهيمنة الأميركية، وقابل جميع طلبات أميركا بالتوقف عن زراعة القمح المصري بالتجاهل، وجميع الاقتراحات بالتقاء رئيس وزراء الكيان الصهيوني أو الاتصال به بالرفض. إثيوبيا: حتى إثيوبيا كانت مرعوبة من تصريحات الرئيس مرسي حول تمسكه بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وأن أي قطرة تنقص من النيل فإن الدماء هي البديل (الحرب). كان الانقلاب على الرئيس مرسي إذن محل ترحيب من جميع هذه الدول، بسبب مواقف الرئيس مرسي الواضحة، وكان رأسمال السيسي في مخاطبة هذه الدول أنه سيمنع مصر من السير قدماً في هذه السياسات. لقد بحث السيسي عمن يشتري خيانته بثمن بخس، وهو تأييد انقلابه، فوجد الكثيرين الذين يعرفون قيمة مصر وقدرها أكثر من السيسي وعصابته! لكن هل كان بإمكان جميع هذه الدول أن تمتطي ظهر ذات الحصان وتراهن عليه؟ للأسف، فإن الحصان لا يستطيع أن يحمل كل هؤلاء الفوارس على ظهره. *** 2 - الحصان لا يتحمل كل هؤلاء على ظهره لكن بعد الانقلاب بفترة بدأت هذه الدول تطلب من مصر سياسات متعارضة، فما تنتظره السعودية من مصر في اليمن وسوريا يختلف عما تريده روسيا وإيران من مصر في ذات الملفين. وشيئاً فشيئاً بدأت تدرك هذه الدول أن الحصان لا يتحملها جميعاً على ظهره، وأن السيسي يلعب على كل الحبال، متبعاً نصيحة ميكافيللي التي يقول فيها: "من يريد النجاح طول الوقت عليه أن يطور من سلوكه بمرور الوقت". وبالفعل طوّر السيسي سلوكه، من "مسافة السكة" إلى التلكؤ في مساعدة السعودية في اليمن، إلى الوقوف بجانب النظام السوري في الجامعة العربية، وأخيراً في مجلس الأمن، إلى التقارب الشديد مع روسيا والتهديد بمنحها قواعد عسكرية في مصر بعد أن خرجت منها في سبعينات القرن الماضي. وإذا اتفقنا على أن تشريح الانقلاب في مصر عبارة عن "عقل وقلب وأطراف"، وأن العقل المدبر هو الغرب، والقلب هو الخليج الذي يمول هذا الانقلاب، والأطراف هم العسكر، فإن القلب بدأ يخرج من الخدمة، بالأزمات الاقتصادية التي بدأت تضرب السعودية وبقية دول الخليج جراء انهيار سعر النفط، ثم إقرار الكونغرس قانون جاستا. والعقل المدبر للانقلاب بدأ يخشى من استمرار السيسي في حكم مصر، لأنه بات متأكداً أن استمرار السيسي يعني انهياراً أو انفجاراً، وهو وضع لا يمكن أن يسمح به الغرب، ليس حباً في هذا البلد، ولكن ببساطة لأن أوروبا لا يمكنها أن تحتمل مأساة جديدة للاجئين من مصر، التي يبلغ تعداد سكانها خمس مرات تعداد سوريا، وأكثر من نصفها شباب يريدون الهجرة، حتى بدون حرب أهلية (تخيل آلاف القوارب مثل قارب رشيد، وتركيز الإعلام الأوروبي على الحادثة بفزع). باختصار، أدركت الدول الداعمة للسيسي منذ فترة أنه يتبع سياسات متناقضة، لكنه كان يماطل ويتذرع ويتحجج بذرائع وحجج واهية، ويؤكد لهم في كل مرة أنه يسعى لإرضاء الجميع، وأن هذه ضرورات السياسة المقيتة، وأن البديل له ولنظامه هو عودة الإخوان الذين سيحققون الاستقلال لمصر وسيضرون بمصالح هذه الدول، فكانت ترضى هذه الدول وتصمت على مساوئه، حتى باتت تعتقد أن استمراره مكلف للغاية، وخطر للغاية أيضاً. *** 3 - فارس واحد بقي على ظهر الحصان لكن كما يقول ميكافيللي أيضاً، فإن من يخدع الناس يبحث دائماً عمن يسمح لنفسه بأن ينخدع "...he who seeks to deceive will always find someone who will allow himself to be deceived"، أو كما يقول المثل في مصر "النصاب عايز طماع". وقد انخدع الخليج طويلاً في السيسي، أو تغاضى عن خداعه لهم، خوفاً من عودة الإخوان، وكان الملك السعودي عبد الله، حسبما نقل ديفيد هيرست في مقاله الأخير "السيسي رجل ميت يمشي على الأرض" Dead man walking - يسأل الرئيس أردوغان حين يتحدث معه عن فظائع الانقلاب في مصر: "جِد لي البديل". من جهته، أدرك السيسي أن حيله لم تعُد تنطلي على الخليج، وأن السعودية تحديداً تواجه من الصعوبات الاقتصادية ما يجعلها غير قادرة على دعم السيسي حتى وإن أرادت. وقد بدأت أمارات ذلك في منح السيسي قروضاً وليس منحاً في المؤتمر الاقتصادي عقب تولي سلمان الحكم، وعدم إرسال شحنة أكتوبر/تشرين الأول من المساعدات النفطية. قلت سابقا إن السيسي لا يستطيع الاستمرار بدون الخليج 3 أشهر، بينما أكد وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو أن مصر لا يمكنها الحياة بدون المساعدات الخليجية أسبوعاً واحداً، فمن يا ترى أقرب للصواب؟ من جهة ثالثة، فإن السيسي رأى بأم عينيه الروس والشيعة يتمسكون بعملائهم، ويدافعون عنهم حتى الرمق الأخير، لقد أدرك السيسي أنه صار غير مهم بشكل كبير في الوقت الحالي للسعودية والغرب، وربما صار عبئاً عليهم، لكن أمامه فرصة في التقرب من روسيا وإيران اللذين يحتاجانه بشدة. فروسيا، يريد بوتين إعادة أمجادها الإمبراطورية إلى سابق عهدها، وعلى رأس هذه الأمجاد "حقها في أن تكون قوية"، وقوة روسيا كما صرح بوتين منذ أيام، أمام مجلس الدوما، تكمن بشكل رئيسي في قوتها العسكرية التي يريد بوتين إعادة بنائها في الدول التي طردها منها الأميركان في نهاية الحرب الباردة. لذا ظهر الحديث الآن عن قاعدة روسية دائمة في طرطوس السورية، وقاعدة روسية ثانية في سيدي براني في شمال مصر، مما يعزز الوجود الروسي في البحر المتوسط لأهداف عدة استراتيجية، أهمها تطويق تركيا. بوتين مُصر على إعادة روسيا من قوة إقليمية إلى قوى عظمى، ويرى تراجعاً أميركياً في المنطقة يريد استغلاله. باتت مصر تصوت لصالح القرار الروسي في مجلس الأمن، رغم علم الجميع أن القانون لن يمر على أي حال بسبب فيتو ثلاثي من أميركا وبريطانيا وفرنسا، لكنه إشارة إلى إعادة التموضع في مواقف مصر الدولية، وإلى الفارس الوحيد الذي بقي ممتطياً ظهر السيسي. إن حضور مصر مؤتمر الشيشان رغم اعتراض السعودية، وتصويتها لصالح المشروع الروسي رغم صدمة السعودية، وإعادة اعترافها ببشار الأسد ممثلاً للشعب السوري رغم صدمة السعودية، لدليل على فشل رهان السعودية على السيسي، وعلى التحولات التي طرأت على علاقة السيسي بالسعودية. ومن ناحية أخرى، فإن شراء مصر القمح الفاسد من روسيا، وقيامها بمناورات مع الجيش الروسي قريباً، وقبولها من حيث المبدأ التفاوض مع الروس حول استئجارهم قواعد عسكرية في مصر، لدليل على أن السيسي لم يعُد أمامه إلا روسيا ليراهن عليها. فهل يقبل داعمو السيسي السابقون بأن يغير السيسي قواعد اللعبة الدولية، ويمنح لروسيا موطئ قدم جديداً في مصر، مستغلاً انشغال الأميركان في انتخابات الرئاسة الأميركية، وعجز السعودية عن التحرك بفاعلية كما في الماضي بعد أزماتها المتتابعة؟ لا أعتقد. *** المصادر: 1 - بالدليل: (عربي 21). 2 - (هافينغتون بوست عربي). 3 - السيسي طرح نفسه مدافعاً عن مصالح الغرب في، وحكومة الانقلاب تسلم وثائق إلى الحكومة البريطانية تثبت قيام الإخوان بعمليات فدائية ضد قواتها لإجبارها على الجلاء في الخمسينات. 4 - "أرامكو" (العربية): 5 - مصر تتفاوض مع روسيا لمنحها قاعدة جوية ()، الخبر كان مزلزلاً، وقد نفته القاهرة تحت الضغوط: ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :