قرأت مقالات في بعض الصحف تتضمن الانتقاص من العلماء لاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما قرأت مقالات أيضًا تتضمن أن يقفز الناس إلى النصوص مباشرة (القرآن الكريم وما صح من الحديث النبوي) ليفهموها، ولا حاجة لفهم الصحابة وغيرهم من علماء الإسلام، بل ذلك - في نظرهم- من أسباب التردي الذي يعيشه الناس. وبعض المقالات تضمنت: أن شيخ العلم الذي كان عليه زمن العلماء المتقدمين يجب أن يموت.... إلى آخر هذيانهم. فأقول وبالله التوفيق: 1 - الله جل جلاله رفع شأن أهل العلم والإيمان، وهؤلاء الجهال يريدون خفض من رفعه الله، وأنى لهم ذلك. قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، ولم يستشهد الله بأحد من الناس على أعظم مشهود عليه وهو توحيده، إلا بأهل العلم والإيمان، بل وقرن شهادتهم بشهادته سبحانه، وشهادة ملائكته فقال تعالى ﴿شهد الله أنه لا إلَه إلّا هو والمَلائِكَة وأولو العلم قائِما بِالقِسْطِ﴾ ألا يدل ذلك على فضل أهل العلم والإيمان؟ 2 - يقول المتنقصون لعلماء الشريعة: لا قدسية لأهل العلم والإيمان. ونقول: ما مقصودكم بالقدسية؟ إن أردتم بالقدسية: أن علماء الشريعة معصومون، فما ادّعى أحدٌ لهم ذلك، وهم أول من ينكر ذلك. وإن أردتم بالقدسية: أن لهم مكانة علية، واحترام وتقدير، وأنهم ورثة الأنبياء، فنقول: نعم لهم مكانة عالية، ونتقرب إلى الله بحبهم وتقديرهم، لأنهم حملة الشرع، ولأن الله رفع شأنهم، فكيف لا نرفع من رفعه الله تعالى؟ وقد جاء في الحديث (يستغفر للعالمِ مَن في السَّماواتِ، ومَن في الأرضِ، حتَّى الحيتانِ في البَحر) ومع هذه المكانة العالية لهم، لا نغلو بهم، فهم بشر يصيبون ويخطئون، وليس من شرط الثقة أن يكون معصومًا لا يخطئ. ولكن هذا اللفظ (القدسية) لا حاجة إليه، ووصفكم للعلماء الراسخين بهذه الأوصاف التي اخترعتموها، لن يزهدنا فيهم، ونحن نعلم أن أهل الأهواء دأبوا على استعمال الألفاظ المجملة، لينفذوا من خلالها إلى ما يريدونه من الباطل؟ 3 - وأما رغبتكم في موت شيخ العلم الذي كان عليه زمن العلماء الراسخين السابقين، فنقول: كل نفس ذائقة الموت، وأنتم وهم ستموتون إذا شاءالله، وعند الله تجتمع الخصوم. وإن أردتم بموتهم: إبعادهم عن الساحة والتأثير، ليبقى الجو خاليًا لأهل الأهواء والفتن والضلال، فهذا محال، للأسباب الآتية: أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ). رواه البخاري ومسلم، والله تعالى قادر على محق أهل الباطل، لكن لله الحكمة البالغة في قضائه وقدره وشرعه قال تعالى (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ). وأما معاداتهم لابن تيمية رحمه الله، فلأنه دكَّ صروح أهل الأهواء، بعلم وعدل، ومن توفيق الله لقادة هذه البلاد أنهم بذلوا جهدًا كبيرًا في حفظ علم هذا العالم الرباني، وطبعوه على نفقتهم، فكان ذلك من جملة حسناتهم العظيمة. وكان قد صدر أمر الملك سعود ثم الملك فيصل رحمهما الله بدعم ابن قاسم رحمه الله لجمع وطبع علوم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتمت طباعة ثلاثين مجلدًا في الرياض، ثم تم إتمام المجلدات الخمسة في مكة، ثم صدر الأمر الملكي بتفويض رئاسة البحوث والإفتاء حق طباعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه. وإن تعجب أيها القارئ الكريم: فعجبٌ أمر هؤلاء الكارهين لعلماء الإسلام السابقين، لاسيما ابن تيمية رحمه الله، وذلك أنهم يرون أن الرجوع إلى علماء السلف المتقدمين (رجعية) و(ماضوية)، و(تخلف) ولكن إن كان الرجوع إلى أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وأتباع هؤلاء، فليس (ماضوية) (وليس تخلفًا) بل هو تطور وتقدم، وصدق الله القائل (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور). وقد أحسن الملك عبدالعزيز رحمه الله بقوله (إننا لا نبغي التجديد الذي يفقدنا عقيدتنا، نحن نريد مرضاة الله عز وجل، إن المسلمين لا يعوزهم التجديد، وإنما يعوزهم العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح) أ.هـ. والعودة إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وما كان عليه السلف الصالح، هو الذي يدفعنا إلى الأمام والتقدم والتطور والقوة والاستفادة مما لدى الآخرين، والأدلة على ذلك معلومة، ومن طعن في ماضيه، فقد سدد طعنات لمستقبله. ب- أن ولاة أمرنا في هذه البلاد المملكة العربية السعودية، يعرفون مكانة العلماء الراسخين الصادقين، ويرفعون من رفعه الله تعالى، وما وصل أهل العلم والإيمان لهذه المكانة العلية في العلم الشرعي إلا بالله ثم بما تبذله هذه الدولة المباركة من نشر للعقيدة الصحيحة، وخدمة للكتاب والسنة، ولذلك نرى ويرى العالم كله احترام ولاة الأمر وفقهم الله للعلماء الراسخين، فهم المقربون في مجلسهم من ولي الأمر في بلادنا، ونرى زيارتهم للعلماء الراسخين. 4 - أما دعوى فهم النصوص من الكتاب والسنة مباشرة دون فهم الصحابة ومن تبعهم من أئمة الإسلام بدعوى أن كلامهم منتج بشري وأنه سبب التردي. فهذه دعوى للفوضى، والثورات، والفتن، للأسباب الآتية: أ- سيفهم الخوارج من النصوص الشرعية الخروج على حكام المسلمين، ويستدلون على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة، وإذا قيل لهم: إن استدلالكم غير صحيح، قالوا: بل أنتم استدلالكم غير صحيح، هذا فهمنا، وذاك فهمكم، فبأي حق يكون فهمكم أولى من فهمنا، فلنا عقول كما لكم عقول، فإن قيل لهم: الصحابة رضي الله عنهم، شاهدوا التنزيل، وعَرَفوا التأويل، وفَهِمُوا مقاصد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا فقهاء القرون المفضلة، لم يفهموا. من النصوص فهمكم هذا، قالوا: أنتم لا ترون فهمهم، ولا ترون إجماعهم، بل ترون هذا منتج بشري، وسبب للتردي. وبالتالي: ينفتح باب الخروج والفتن على مصراعيه، بسبب هذا العبث الذي يكتبه بعض من ابتُليت بهم الصحافة. ب- إن كانوا يرون الكتاب والسنة حجة، فإنا نقول لهم: إن الكتاب والسنة دلت على الرجوع إلى إجماع الصحابة وفهمهم للنصوص، وإلى أن هذا العلم يحمله من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. قال تعالى: {ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} والمؤمنون في قوله تعالى (ويتبع غير سبيل المؤمنين) هم الصحابة، لأنهم هم المؤمنون وقت نزول الآية الكريمة، فاتباع سبيلهم مأمور به شرعًا، وهذا هو الذي يوقف عبث الجهال، الذين يعمدون إلى آيات نزلت في الكفار، فيجعلوها في المسلمين، بسبب سوء استدلالهم وفهمهم للنصوص الشرعية. ولذلك قلت إن طرح هؤلاء الكتاب يفتح الباب للفتن.
مشاركة :