المأمول من كل مسلم أن يُقَدِّر الله حق قدره، فلا يعارض كلام الله، فضلا أن يقدم عقله على كتاب الله وسنة رسوله العقل الصريح لا يمكن أن يتعارض مع النقل الصحيح، ولم يأت نبينا عليه الصلاة والسلام بما يخالف العقول البتة، والعقل الصريح: هو العقل السالم من الشبهات والشهوات. وما يُتوهم فيه التعارض فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن النقل ليس صحيحا، وإما أن العقل ليس صريحا، وربما يجتمع الأمران، عدم صحة النقل، وكون العقل ليس صريحا، وحينئذٍ لا يقال وقع التعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح، وبعض الناس - هداهم الله - يأتي بمجهولات وينقل عن غيره فلسفات يظنها عقليات، فإذا رآها تتعارض مع ما ذكره الله تعالى أو ذكره رسوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه، عمد إلى تحريف معاني النصوص، من أجل أنها تخالف العقل بزعمه، متكئا على قانون أهل الأهواء، المتضمن أنه عند تعارض العقل والنقل، فإنه يُقدَم العقل، لأن العقل أصل النقل، وأما النقل فيُتأول (يُحرّف) أو يُفوَّض، وهذا القانون الكلي لأهل الأهواء، باطل من أكثر من خمسين وجها، ذكرها علماء السلف، ومن شاء معرفتها فليرجع إليها في كتبهم، ومنها كتاب (درء تعارض العقل والنقل) لابن تيمية، وكتاب (مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) لابن القيم، ومن المهم أن يُعلم أن مكانة العقل السامية، وكونه مناط التكليف، ووردت كثير من النصوص الشرعية حاثة على التعقل والتفكر، كقوله تعالى (أفلا تعقلون)، وما جاء في معناها من النصوص التي تزيد على سبعين موضعا في كتاب الله، وكون الحفاظ عليه من الضرورات الخمس، لا يسوِّغ الغلو في العقل، وتقديمه على النقل، لأن له حدودا لا يصح أن يتجاوزها، وقد قال الشافعي رحمه الله "إن للعقل حداً ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه"، ومعلومٌ كذلك أن العقول متفاوتة، ليس هناك عقل موحد يُرجع إليه، بل كلٌ يرى عقله أحسن من عقل غيره، ولهذا فالفلاسفة - كما يقول ابن القيم - مع شدة اعتنائهم بما يسمونه المعقولات، هم أشد اضطرابا فيها، فكلٌ يدّعي أن صريح العقل معه، وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل، فبعقل مَنْ منهم يوزن كلام الله ورسوله؟ وأي عقولهم تُجعل معيارا له؟ أعقل أرسطو، أم عقل أفلاطون، أم عقل سقراط، أم عقل الفارابي، أم عقل جهم بن صفوان، أم عقل الجبائي، أم عقل بشر المريسي، أم عقول القرامطة والباطنية، أم عقول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، أم عقول المعتزلة وورثتهم، فكل هؤلاء وأضعافهم وأضعاف أضعافهم، يدَّعي أن المعقول الصريح معه وأن مخالفيه خرجوا عن صريح المعقول، وهذه عقولهم تنادي عليهم في كتبهم وكتب الناقلين عنهم. وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو أكمل الناس عقلا على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي، لا بمجرد العقل، فكيف يحصل الهدى لغيره بمجرد العقل، قال تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب)، وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) وقال تعالى: (ووجدك ضالا فهدى)، فمن لم يستنر بالوحي فهو ضال عن الهدى، لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، كما أن من قدم عقله على الوحي فليس بعاقل، وقد اعترف من عارضوا الوحي بعقولهم وأهوائهم، أنهم ليسوا عقلاء، وقالوا: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)، كما ندم كثير من المتفلسفة على دخولهم هذا المستنقع، وبعضهم أراد أن يتقيأه فما استطاع، وبعضهم (وهو الرازي) أعلن خلاصة تجربته فقال: (لقد تأملتُ الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتُها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن، ومن جرّب مثل تجربتي؛ عرف مثل معرفتي). والمأمول من كل مسلم أن يُقَدِّر الله حق قدره، فلا يعارض كلام الله، فضلا أن يقدم عقله على كتاب الله وسنة رسوله، وكيف لعبد مخلوق ضعيف، أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، كيف يتجرأ بتقديم عقله على كلام خالقه العظيم، الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، والسموات والأرض مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى.
مشاركة :