التعددية الثقافية في أميركا ما بين الثقافة السائدة والثقافات الجانبية

  • 8/26/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ثنائية القومية والدين الأساس الذي يقوم عليه الفكر اليهودي، كما هو الحال في إسرائيل، رغم معارضة عقلاء اليهود في الولايات المتحدة الأميركية لفكرة دولة يهودية تتداخل فيها القومية بالدين، والتي تضعها في معزل وسجن اختياري دائم تبقيها في حالة استنفار من أجل حماية التقاليد اليهودية والقومية العبرية ولا يعنيها غيرهما.. كثيرًا ما يثار التساؤل؛ هل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية على وفاق مع قيم النواة من الطبقة الوسطى والمتكونة من البيض (البروتستانت)؟ وهل تتمثل قيم تلك الثقافة؟ وإن كانت بعض الجاليات المكسيكية واللاتينية والروسية والصينية تتمثل قيم الثقافة الغالبة (البروتستانت) بدرجة محدودة إما بسبب صعوبة التمثل أو رغبتهم في الإبقاء على بعض خصائصهم الثقافية أو إلى الحد الذي يخدم مصالحهم إلا أنني سوف أحصر نقاشي في الجالية اليهودية. وهو نقاش له علاقة بالثقافة، ولكن تحديد الموضوع بهذه الصورة يجعل الحصول على المعلومات غير متيسر بصورة كافية، إذ إنه لم يتوفر باحث على دراسة الموضوع بهذا التخصص الدقيق، ولهذا السبب الموضوعي رأيت أن نتناوله من ناحية نظرية عامة ومن خلال منظورين مختلفين: أولاً؛ من منظور نظرة النواة من الطبقة الوسطى المتكونة من البيض البروتستانت إلى الجالية اليهودية. وثانيًا؛ نظرة الجالية اليهودية إلى قيم الثقافة الغالبة (البروتستانت)، وإن كان لا بد من الاعتراف بأن قدرًا من التمثل لقيم الطبقة الوسطى يحدث بالنسبة لكل جالية إلا أنه يبقى التفاوت واضحاً في درجة التمثل بين الجاليات الأميركية، وإن كنا نلمس رغبة بعض الجاليات الأوروبية (غير البروتستانت) والجالية اللاتينية في الانخراط التام في مجتمع الثقافة الغالبة وذلك عن طريق تبديل شخصيتها الثقافية والاندماج التام في ثقافة الأيديولوجية السائدة والحصول على خصائص ثقافة النواة. إلا أنه في المقابل لم يحدث أبدًا أن أحدًا تبنى خصائص الثقافة الأميركية السوداء أو خصائص المجموعة الأميركية المكسيكية أو اللاتينية أو أي مجموعات أخرى، إلا أن معظم المجتمع الأميركي يتمثلون خصائص الثقافة الأميركية النواة، واتخاذها ثقافة لهم، بل وربما يسعون عملياً للاندماج التام بالثقافة الغالبة واعتبارهم من أفرادها. فالمجتمع الأميركي فيه ثقافة سائدة قوية وفيه ثقافات جانبية. ولكن قبل أن ندخل في نظرة الطبقة الوسطى أو الثقافة النواة في الولايات المتحدة الأميركية إلى الجالية اليهودية نحاول أن نقف على الجانب التاريخي لهجرة الجالية اليهودية إلى الولايات المتحدة الأميركية، والتي ترجع إلى القرن السابع عشر الميلادي، والتي كانت تتمثل في مجموعات قليلة إلا أنه بعد الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في منتصف القرن التاسع عشر من قبل الحركة النازية في ألمانيا تتابعت الهجرات إلى الولايات المتحدة، وقد تضاعفت عقب الثورة البلشفية في روسيا، تبعها هجرات أخرى من دول البلطيق وبولونيا ورومانيا والنمسا وبعض دول أوروبا. ولكن المهاجر اليهودي إلى الولايات المتحدة الأميركية يختلف عن أي مهاجر آخر فعندما يصل إلى نيويورك يتجه فوراً إلى حي the Bronx أو بوروبارك بروكلين لينضم إلى الجالية اليهودية. هذا الميل الغريزي كما يقول المفكر أمين المميز للتجمع والتكتل هو إحدى خصائص الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، اكتسبوها من تاريخ طويل من الاضطهاد، فصعوبة الامتزاج والاندماج والتداخل مع بقية المجتمع الأميركي خاصية ثقافية لدى الجالية اليهودية، فهم غير راغبين في الانفصال عن ماضيهم الثقافي والاندماج في ثقافة جديدة بسبب العزلة الثقافية. وفي هذا يقول هيرزل مؤسس المنظومة الصهيونية المعاصرة وزعيم الصهيونية الأول: «إني أربأ باليهود أن يندمجوا بالأقوام الأخرى.. قد نتمكن من الاندماج اندماجاً تاماً مع ما يحيط بنا من أقوام إذا ما تركتنا هذه الأقوام وشأننا لمدة جيلين فقط. ولهذا شئنا أم أبينا فنحن الآن وسنبقى إلى الأبد كتلة تاريخية فريدة، لنا خصائصنا الخاصة بنا». فإذا كانت الجالية اليهودية تتظاهر بأنها تشارك بقية المجتمع الأميركي خصائصه الثقافية وأوضاعه الاجتماعية داخل الإطار الاجتماعي الأميركي، وتتخذ الحياة الأميركية حياة لها، وأنها قد صارت من أفراد المجتمع الأميركي، فهذا بعيد عن الواقع، فاليهودي تمتزج عنده القومية مع الدين، وذلك نتيجة تمسكه بتقاليده الدينية وعاداته القومية، فاليهودي لا يتزوج إلا يهودية إلا ما ندر، ولا يخرج على تقاليد «السبت» فقيمه وتقاليده الخاصة تأتي أولًا، فمثلًا عيد الهونيكا أهم عنده بكثير من عيد الكريسمس، وإذا كان مثلًا شارك في طقوس الكريسمس فعلى اعتبار أنها مناسبة اجتماعية وليست مناسبة دينية. فثنائية القومية والدين الأساس الذي يقوم عليه الفكر اليهودي، كما هو الحال في إسرائيل، رغم معارضة عقلاء اليهود في الولايات المتحدة الأميركية لفكرة دولة يهودية تتداخل فيها القومية بالدين، والتي تضعها في معزل وسجن اختياري دائم تبقيها في حالة استنفار من أجل حماية التقاليد اليهودية والقومية العبرية ولا يعنيها غيرهما، واضعةً اليهودي في وضع مزدوج ما بين القومية والدولة. هذه الثنائية على مستوى المجتمع الأميركي المتمثلة في القومية اليهودية والتقاليد الثقافية مع المركب النفسي الذي تمركز في النفس اليهودية خلال عصور الاضطهاد وشعوره الدفين بانعدام المساواة بينه وبين بقية البشر، هذه العناصر قوت فيه فكرة التباعد بينه وبين المجتمع الأميركي، فإذا نظرنا مثلًا إلى مدينة نيويورك والتي تسكنها معظم الجالية اليهودية، نرى الجالية اليهودية تعيش منعزلة في أحياء خاصة. هذه الخصائص والتقاليد اليهودية تعارض تقاليد وقيم الطبقة الوسطى في المجتمع الأميركي التي تؤمن بمبدأ المساواة وعدم الاعتراف بالحواجز الفكرية والاجتماعية والثقافية بين البشر وحب التسامح والرغبة في إتاحة الفرص للغير، وبسبب تمسك اليهود بخصائصهم أصبح التعارض بين القومية اليهودية وطريقة الحياة الأميركية والتفكير الأميركي واضحًا في المجتمع الأميركي، ومن هنا نشأ الصراع الخفي والعلني بين التفكير الأميركي السائد والقومية اليهودية.

مشاركة :