- بلى، نعم، كلّ سنة وأنتَ بخيرٍ، العاقبة لمائة سنة. ردّتْ باقتضابٍ ثمّ وضعت السمّاعةَ جانبا وتصاعدتْ منها زفرات لا متناهية. إذن اليوم مولده، لم تكن تعرف التّاريخ بالتحديد لكنّها تذكر الشّهر وأنّ مولده في أيّامه الأولى، قد يكون يوم اثنين أو ثلاثة من الشّهر، همست في أغوارها: «سأنتظر مكالمة منه تعلمني بالموعد، كما كلّ سنة». فجأة انتصبت أمامها الأسئلة مصطفّة مبعثرة كلمح البصر: -لمَ هاتفني الآن والسّاعة تقترب من منتصف اللّيل؟ لمَ يذكرني الآن؟ أين كان كلّ هذه الفترة؟ كان وحده يربكها ويلعثمها... وحده يحملها إلى عالم لا تعرفه... ترفل فيه دون هوادة. تبحر بلا دراية في أيّ اتّجاه تسير؟؟ لكنّه يحملها إلى هناك حيث يطوّق ضياعها ويوقظ ذاكرتها من غفوتها المبهمة فترسم أمامها كلّ المشاهد والصّور فتصدح أذناها أصواتا مختلفة مجهولة... فجأة صرخت أعماقها: -كلّا، يكفي ضياعا. كانت صديقة لها تجلس حذوها على الأريكة في قاعة الجلوس قدمت لتشاركها سهرتها وتؤنس وحدتها المُمِضَّةَ. لاحظتْ ارتباكها وشرودها منذ أقفلتْ السمّاعة فسألتها بفضول: -من كان؟ ولأنّها لم تجبها أحسّتْ بالحرجِ ولم تردْ أن تتدخّل في شؤونها الخاصّة وهي الكتومة على الدّوام. ارتبكت ثمّ أردفتْ: -أَلمْ يعجبكِ الفلم بالشّاشة؟ هل نغيّره؟ لكنّها ردّتْ فورا: -لا يمكنني تغييره، لا أستطيع، ما من أحد استطاع محوه منّي. كأنّه الأكسجين الّذي أتنفّس، كلّ الطّرقات والمسالك تذكّرني به. كلّ المواقف تذكّرني به. -إذن؟ أليس الزّمن كفيلا بمساعدتنا على النّسيان؟ -مطلقا. لم يساعدني الزّمن على نسيانه ولو لحظة كما لم أستطع محو ذلك المشهد من ذاكرتي. عندئذ صمتت، تذكّرت أنّها لا تقحم أصدقاءها في تفاصيل حياتها الخاصّة. وجّهتْ نظرها نحو الشّاشة... لكنّها لم تكن ترى سوى ذلك المشهد جاثما أمامها: يومها، وعلى غير العادة، حيث كانت تلتقيه بسرعة فائقة تتركه أمام منزله وتمضي في طريقها... يومها عظُم الشّوق بداخلها. كابدتْ. تلوّتْ. ارتسمتْ أمامها ضحكات أصدقائها وسعادتهم إلّا هي... نداء صاخب جرفها لأن تركض إليه في ذلك المنزل... رأته يئنّ وحيدا ينتظرها شوقا لا متناهيا... داستْ على مكابح سيّارتها وسارت تلـتهم الطّرقات التهاما. سارت إليه غفلة دون أن تعلمه كما اعتادتْ. أرادتْ أن تفاجئه. اندفعتْ إليه وشعور غامض يسكنها منذ فترة. كانت تجهل مأتاه لكنّها جرت إليه. طرقت الباب بكلّ ما أوتيت من قوّةٍ. كانت تحسبُ أنّه ليس بالمكان. لكنّها جاءتْ. ها هو يخرج من المنزل. حقّا لم تكن تتوقّع رؤيتهُ لكنّه خرج. شعور غريب انتابها. كمن ألقى بها إلى قاع البحار والمحيطات... للبحر هديل ممتع. للشّمس أشعّة مبهرة وللقمر ضياء منفرد... ولها حزن يهزّ الأكوان ويوقظ البراكين من سباتها... كعمر الوليد كان قد عمّرها الحلم الجميل... ومع لفحات الهجير بهُت لونه... نزعها يكابد وهي تراه على عتمة الغسق يتلاشى. يتفتّتُ. رأته مرايا منكسرة بلا اتّجاهات بائنة. رأته جثّة هامدة بلا روح. «تهشّمت إذن الأحلام على التّوّ.» غمغمتْ أغوارها وهالة من الضّحكات تلبّستها. لم تستطع أن تكفّ عن الضّحك أمامه لكنّه تلعثم.. ارتبك.. غاص في عرق الخيانة ودار حدّ المتاهة.. بحث عن كلمات ليسكّنها ويهدّئ من الهستيريا الّتي انتابتها. لم ينجح. ظلّت مع موجة الضّحك والدّموع تغرق فؤادها الصّغير. -الفيلم انتهى، ما رأيكِ لو ننامُ الآن؟ أعادها سؤال صديقتها إلى المكان الّذي توجد فيه وقد تركته هناك يتضوّر شوقا لرؤيتها حتّى يقدّم لها أعذارا وتسامحه: -أرجوكِ أنتِ أروعَ وأجمل ما بحياتي لا تتركيني. لكنّه ذبحها وأدماها... ظلّت أيّاما وشهورا تعوي وتئنّ بين الشّوارع والطّرقات ولا أحد يسمعها... وحدها الطّريق الطّويلة كانت تشهد ضعفها وأنينها... سنوات مرّت وهي ما تزال صدرا يسمعه ويرأف لحاله... سنوات مرّت وهي ما تزال تنزف جراحا وتقول: -سوف أتركه حال أتسلّح بالقوّة والعظمة. لن أسامحه على خيانته. لن أغفر له. ورغم ذلك ترفع يديها المرتعشتين وتمسح له دموعه المنسكبة كلّما ركض إليها... مع ندى الفجر الجميل تستكين مشاعرها وتتحوّل... تصير بلاطا.. بساطا خامة فلاة... مع نسمات الصّبح تتصابى. ترقص حول ذكراه وترحّل عنها صورة يتيمة له. كان يركع تحت قدميها. كان يتوسّل رأفتها به. -لن أستطيع الحياة دونكِ، صدّقيني. ومع السّنوات العابرة تأكّدت أنّه لا يستطيع فراقها. ولا هي تستطيع. لكنها لا تستطيع نسيان خيانته... تعود لهدأتها قرب صديقتها: -ما بك صامتة واجمة؟ -لا، لا شيء مهمّ، لا شيء له معنى.
مشاركة :