قصة قصيرة : صريرُ الرّوحِ

  • 8/27/2022
  • 09:19
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

‭- ‬بلى،‭ ‬نعم،‭ ‬كلّ‭ ‬سنة‭ ‬وأنتَ‭ ‬بخيرٍ،‭ ‬العاقبة‭ ‬لمائة‭ ‬سنة‭.‬ ردّتْ‭ ‬باقتضابٍ‭ ‬ثمّ‭ ‬وضعت‭ ‬السمّاعةَ‭ ‬جانبا‭ ‬وتصاعدتْ‭ ‬منها‭ ‬زفرات‭ ‬لا‭ ‬متناهية‭. ‬ إذن‭ ‬اليوم‭ ‬مولده،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرف‭ ‬التّاريخ‭ ‬بالتحديد‭ ‬لكنّها‭ ‬تذكر‭ ‬الشّهر‭ ‬وأنّ‭ ‬مولده‭ ‬في‭ ‬أيّامه‭ ‬الأولى،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬يوم‭ ‬اثنين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬الشّهر،‭ ‬همست‭ ‬في‭ ‬أغوارها‭: ‬‮«‬سأنتظر‭ ‬مكالمة‭ ‬منه‭ ‬تعلمني‭ ‬بالموعد،‭ ‬كما‭ ‬كلّ‭ ‬سنة‮»‬‭. ‬ فجأة‭ ‬انتصبت‭ ‬أمامها‭ ‬الأسئلة‭ ‬مصطفّة‭ ‬مبعثرة‭ ‬كلمح‭ ‬البصر‭:‬ ‭-‬لمَ‭ ‬هاتفني‭ ‬الآن‭ ‬والسّاعة‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬اللّيل؟‭ ‬لمَ‭ ‬يذكرني‭ ‬الآن؟‭ ‬أين‭ ‬كان‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬الفترة؟ كان‭ ‬وحده‭ ‬يربكها‭ ‬ويلعثمها‭... ‬وحده‭ ‬يحملها‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬تعرفه‭... ‬ترفل‭ ‬فيه‭ ‬دون‭ ‬هوادة‭. ‬تبحر‭ ‬بلا‭ ‬دراية‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬اتّجاه‭ ‬تسير؟؟‭ ‬لكنّه‭ ‬يحملها‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬حيث‭ ‬يطوّق‭ ‬ضياعها‭ ‬ويوقظ‭ ‬ذاكرتها‭ ‬من‭ ‬غفوتها‭ ‬المبهمة‭ ‬فترسم‭ ‬أمامها‭ ‬كلّ‭ ‬المشاهد‭ ‬والصّور‭ ‬فتصدح‭ ‬أذناها‭ ‬أصواتا‭ ‬مختلفة‭ ‬مجهولة‭...‬ فجأة‭ ‬صرخت‭ ‬أعماقها‭:‬ ‭-‬كلّا،‭ ‬يكفي‭ ‬ضياعا‭.‬ كانت‭ ‬صديقة‭ ‬لها‭ ‬تجلس‭ ‬حذوها‭ ‬على‭ ‬الأريكة‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الجلوس‭ ‬قدمت‭ ‬لتشاركها‭ ‬سهرتها‭ ‬وتؤنس‭ ‬وحدتها‭ ‬المُمِضَّةَ‭. ‬لاحظتْ‭ ‬ارتباكها‭ ‬وشرودها‭ ‬منذ‭ ‬أقفلتْ‭ ‬السمّاعة‭ ‬فسألتها‭ ‬بفضول‭:‬ ‭-‬من‭ ‬كان؟ ولأنّها‭ ‬لم‭ ‬تجبها‭ ‬أحسّتْ‭ ‬بالحرجِ‭ ‬ولم‭ ‬تردْ‭ ‬أن‭ ‬تتدخّل‭ ‬في‭ ‬شؤونها‭ ‬الخاصّة‭ ‬وهي‭ ‬الكتومة‭ ‬على‭ ‬الدّوام‭. ‬ارتبكت‭ ‬ثمّ‭ ‬أردفتْ‭:‬ ‭-‬أَلمْ‭ ‬يعجبكِ‭ ‬الفلم‭ ‬بالشّاشة؟‭ ‬هل‭ ‬نغيّره؟ لكنّها‭ ‬ردّتْ‭ ‬فورا‭:‬ ‭-‬لا‭ ‬يمكنني‭ ‬تغييره،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع،‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬استطاع‭ ‬محوه‭ ‬منّي‭. ‬كأنّه‭ ‬الأكسجين‭ ‬الّذي‭ ‬أتنفّس،‭ ‬كلّ‭ ‬الطّرقات‭ ‬والمسالك‭ ‬تذكّرني‭ ‬به‭. ‬كلّ‭ ‬المواقف‭ ‬تذكّرني‭ ‬به‭.‬ ‭-‬إذن؟‭ ‬أليس‭ ‬الزّمن‭ ‬كفيلا‭ ‬بمساعدتنا‭ ‬على‭ ‬النّسيان؟ ‭-‬مطلقا‭. ‬لم‭ ‬يساعدني‭ ‬الزّمن‭ ‬على‭ ‬نسيانه‭ ‬ولو‭ ‬لحظة‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬محو‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭.‬ عندئذ‭ ‬صمتت،‭ ‬تذكّرت‭ ‬أنّها‭ ‬لا‭ ‬تقحم‭ ‬أصدقاءها‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتها‭ ‬الخاصّة‭. ‬وجّهتْ‭ ‬نظرها‭ ‬نحو‭ ‬الشّاشة‭... ‬لكنّها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ترى‭ ‬سوى‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬جاثما‭ ‬أمامها‭:‬ يومها،‭ ‬وعلى‭ ‬غير‭ ‬العادة،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تلتقيه‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬تتركه‭ ‬أمام‭ ‬منزله‭ ‬وتمضي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭... ‬يومها‭ ‬عظُم‭ ‬الشّوق‭ ‬بداخلها‭. ‬كابدتْ‭. ‬تلوّتْ‭. ‬ارتسمتْ‭ ‬أمامها‭ ‬ضحكات‭ ‬أصدقائها‭ ‬وسعادتهم‭ ‬إلّا‭ ‬هي‭... ‬نداء‭ ‬صاخب‭ ‬جرفها‭ ‬لأن‭ ‬تركض‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المنزل‭... ‬رأته‭ ‬يئنّ‭ ‬وحيدا‭ ‬ينتظرها‭ ‬شوقا‭ ‬لا‭ ‬متناهيا‭...‬ داستْ‭ ‬على‭ ‬مكابح‭ ‬سيّارتها‭ ‬وسارت‭ ‬تلـتهم‭ ‬الطّرقات‭ ‬التهاما‭. ‬سارت‭ ‬إليه‭ ‬غفلة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعلمه‭ ‬كما‭ ‬اعتادتْ‭. ‬أرادتْ‭ ‬أن‭ ‬تفاجئه‭. ‬اندفعتْ‭ ‬إليه‭ ‬وشعور‭ ‬غامض‭ ‬يسكنها‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭. ‬كانت‭ ‬تجهل‭ ‬مأتاه‭ ‬لكنّها‭ ‬جرت‭ ‬إليه‭. ‬طرقت‭ ‬الباب‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬أوتيت‭ ‬من‭ ‬قوّةٍ‭. ‬كانت‭ ‬تحسبُ‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬بالمكان‭. ‬لكنّها‭ ‬جاءتْ‭. ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬المنزل‭. ‬حقّا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتوقّع‭ ‬رؤيتهُ‭ ‬لكنّه‭ ‬خرج‭. ‬شعور‭ ‬غريب‭ ‬انتابها‭. ‬كمن‭ ‬ألقى‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬قاع‭ ‬البحار‭ ‬والمحيطات‭...‬ للبحر‭ ‬هديل‭ ‬ممتع‭. ‬للشّمس‭ ‬أشعّة‭ ‬مبهرة‭ ‬وللقمر‭ ‬ضياء‭ ‬منفرد‭... ‬ولها‭ ‬حزن‭ ‬يهزّ‭ ‬الأكوان‭ ‬ويوقظ‭ ‬البراكين‭ ‬من‭ ‬سباتها‭... ‬كعمر‭ ‬الوليد‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عمّرها‭ ‬الحلم‭ ‬الجميل‭... ‬ومع‭ ‬لفحات‭ ‬الهجير‭ ‬بهُت‭ ‬لونه‭... ‬نزعها‭ ‬يكابد‭ ‬وهي‭ ‬تراه‭ ‬على‭ ‬عتمة‭ ‬الغسق‭ ‬يتلاشى‭. ‬يتفتّتُ‭. ‬رأته‭ ‬مرايا‭ ‬منكسرة‭ ‬بلا‭ ‬اتّجاهات‭ ‬بائنة‭. ‬رأته‭ ‬جثّة‭ ‬هامدة‭ ‬بلا‭ ‬روح‭. ‬‮«‬تهشّمت‭ ‬إذن‭ ‬الأحلام‭ ‬على‭ ‬التّوّ‭.‬‮»‬‭ ‬غمغمتْ‭ ‬أغوارها‭ ‬وهالة‭ ‬من‭ ‬الضّحكات‭ ‬تلبّستها‭. ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تكفّ‭ ‬عن‭ ‬الضّحك‭ ‬أمامه‭ ‬لكنّه‭ ‬تلعثم‭.. ‬ارتبك‭.. ‬غاص‭ ‬في‭ ‬عرق‭ ‬الخيانة‭ ‬ودار‭ ‬حدّ‭ ‬المتاهة‭.. ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬كلمات‭ ‬ليسكّنها‭ ‬ويهدّئ‭ ‬من‭ ‬الهستيريا‭ ‬الّتي‭ ‬انتابتها‭. ‬لم‭ ‬ينجح‭. ‬ظلّت‭ ‬مع‭ ‬موجة‭ ‬الضّحك‭ ‬والدّموع‭ ‬تغرق‭ ‬فؤادها‭ ‬الصّغير‭.‬ ‭-‬الفيلم‭ ‬انتهى،‭ ‬ما‭ ‬رأيكِ‭ ‬لو‭ ‬ننامُ‭ ‬الآن؟ أعادها‭ ‬سؤال‭ ‬صديقتها‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الّذي‭ ‬توجد‭ ‬فيه‭ ‬وقد‭ ‬تركته‭ ‬هناك‭ ‬يتضوّر‭ ‬شوقا‭ ‬لرؤيتها‭ ‬حتّى‭ ‬يقدّم‭ ‬لها‭ ‬أعذارا‭ ‬وتسامحه‭:‬ ‭-‬أرجوكِ‭ ‬أنتِ‭ ‬أروعَ‭ ‬وأجمل‭ ‬ما‭ ‬بحياتي‭ ‬لا‭ ‬تتركيني‭.‬ لكنّه‭ ‬ذبحها‭ ‬وأدماها‭... ‬ظلّت‭ ‬أيّاما‭ ‬وشهورا‭ ‬تعوي‭ ‬وتئنّ‭ ‬بين‭ ‬الشّوارع‭ ‬والطّرقات‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يسمعها‭... ‬وحدها‭ ‬الطّريق‭ ‬الطّويلة‭ ‬كانت‭ ‬تشهد‭ ‬ضعفها‭ ‬وأنينها‭...‬ سنوات‭ ‬مرّت‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬صدرا‭ ‬يسمعه‭ ‬ويرأف‭ ‬لحاله‭... ‬سنوات‭ ‬مرّت‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تنزف‭ ‬جراحا‭ ‬وتقول‭:‬ ‭-‬سوف‭ ‬أتركه‭ ‬حال‭ ‬أتسلّح‭ ‬بالقوّة‭ ‬والعظمة‭. ‬لن‭ ‬أسامحه‭ ‬على‭ ‬خيانته‭. ‬لن‭ ‬أغفر‭ ‬له‭.‬ ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬ترفع‭ ‬يديها‭ ‬المرتعشتين‭ ‬وتمسح‭ ‬له‭ ‬دموعه‭ ‬المنسكبة‭ ‬كلّما‭ ‬ركض‭ ‬إليها‭...‬ مع‭ ‬ندى‭ ‬الفجر‭ ‬الجميل‭ ‬تستكين‭ ‬مشاعرها‭ ‬وتتحوّل‭... ‬تصير‭ ‬بلاطا‭.. ‬بساطا‭ ‬خامة‭ ‬فلاة‭... ‬مع‭ ‬نسمات‭ ‬الصّبح‭ ‬تتصابى‭. ‬ترقص‭ ‬حول‭ ‬ذكراه‭ ‬وترحّل‭ ‬عنها‭ ‬صورة‭ ‬يتيمة‭ ‬له‭. ‬كان‭ ‬يركع‭ ‬تحت‭ ‬قدميها‭. ‬كان‭ ‬يتوسّل‭ ‬رأفتها‭ ‬به‭. ‬ ‭-‬لن‭ ‬أستطيع‭ ‬الحياة‭ ‬دونكِ،‭ ‬صدّقيني‭.‬ ومع‭ ‬السّنوات‭ ‬العابرة‭ ‬تأكّدت‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬فراقها‭. ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬تستطيع‭. ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬نسيان‭ ‬خيانته‭...‬ تعود‭ ‬لهدأتها‭ ‬قرب‭ ‬صديقتها‭:‬ ‭-‬ما‭ ‬بك‭ ‬صامتة‭ ‬واجمة؟ ‭-‬لا،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬مهمّ،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬له‭ ‬معنى‭.‬

مشاركة :