كشفت حروب روسيا عبر العقود الماضية، أنها قادرة على استدامة عملياتها العسكرية، ويتكهن الخبراء بأن روسيا ستتمكن من تحقيق أهدافها على المدى البعيد، رغم التكلفة العالية والمدة الطويلة والخسائر الجسيمة اقتصاديا وعسكريا، وقد تعد الحرب الروسية على أوكرانيا أطول حرب في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. والأكثر خطورة أن الغرب وخصوصا أوروبا سوف يتضرر من طول أمد هذه الحرب، من خلال استمرار زيادة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة الذي يمثل كارثة حقيقية لهم، إلى جانب أنواع الضغوط الاقتصادية والسياسية، التي قد تخلق مشكلات وانقسامات سياسية حول سبل التعامل مع الأزمة، وقد تؤدي إلى مشكلات داخل دول الاتحاد الأوروبي وتهدد وحدته في حال إطالة أمد الحرب. وبعد ستة أشهر من الحرب -وهي فترة أطول بكثير على ما يبدو، مما توقعه المراقبون- فإن هناك احتمال حقيقي ألا يحقق أي من الطرفين ما يرغب من الأهداف. ولا يرى المحللون أي سبب وراء وقف الصراع، إذ لا تظهر تسويات أو مفاوضات سلام في الأفق، في ظلّ المواقف شديدة التناقض. ولن تتمكن أوكرانيا من طرد القوات الروسية بالكامل من الأراضي التي احتلتها منذ أن شنَّت موسكو هجومها، ومن المحتمل أن تكون روسيا غير قادرة أيضا على تحقيق هدفها السياسي الرئيس وهو السيطرة على أوكرانيا بالكامل التي لن تستطيع من جهتها استرداد أراضيها التي أخذتها روسيا حتى الآن. وقد يلجأ بوتين إلى حرب استنزاف لها مزايا عديدة بالنسبة له، إذا كان سيُهزَم، فيمكنه تأجيل الهزيمة بحربٍ طويلة، وربما حتى تسليم الصراع المحكوم عليه بالفشل إلى من يخلفه. وتلعب الحرب الطويلة أيضاً دوراً في بعض نقاط القوة الفطرية لروسيا، إذ سيتيح ذلك لموسكو الوقت لتجنيد وتدريب مئات الآلاف من الجنود الجدد، مما قد يغير النتيجة، إذا استمرت الحرب لسنوات، فإن الجيش الروسي يمكنه إعادة بناء قواته المستنزفة، خاصة إذا ظلت ميزانية الدولة الروسية مستقرة (أي إذا استمرت مدفوعات الطاقة من أوروبا وأماكن أخرى). علاوة على أن روسيا لا تحتاج بالضرورة إلى انتصارات في ساحة المعركة لممارسة الضغط على كييف، لا سيما إذا طال أمد الحرب. وقدَّرَ البنك الدولي خسائر الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا 2022 بنسبة 45 %، والخراب الاقتصادي لأوكرانيا هو إحدى النتائج الخطيرة للهجوم الروسي، ولكنه أقل وضوحاً. وقد تساعد حرب الاستنزاف بوتين في ممارسة الضغط على التحالف عبر الأطلسي، خاصة إذا بدأ الدعم لأوكرانيا في التضاؤل بالغرب، ويرى بوتين أن الديموقراطيات الغربية غير مستقرة وغير فعالة، وربما تراهن على التحولات السياسية في أوروبا أو الولايات المتحدة مع تزايد ضغوط الحرب بمرور الوقت. وإذا أُعيد انتخاب دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، فقد يحاول مرة أخرى إبرام صفقة مع روسيا، على الأرجح على حساب الناتو. وبالمثل، سيفتح فوز مارين لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 24 أبريل الأبواب أمام بوتين الذي يرى بأن قبضته على السلطة أبدية. وقد تتغير قواعد اللعبة بتغير اللاعبين. ولدى أوكرانيا أيضاً العديد من الأسباب لعدم إنهاء الحرب من خلال وقف إطلاق النار قبل الأوان وفقاً للشروط الروسية باعتبار أن أداء جيشها كان جيداً. في مواجهة هجوم غير مبرر من قبل إحدى القوى العسكرية الكبرى في العالم، وصدت القوات الأوكرانية روسيا في شمال وشمال شرقي البلاد، وخسرت روسيا معركة كييف، ولم تتمكن من تجاوز مدينة ميكولايف الجنوبية باتجاه أوديسا. وأظهرت أوكرانيا أن المثابرة والروح المعنوية، مُعزَّزة بالطائرات المسيَّرة والأسلحة الحديثة المضادة للدبابات، يمكن أن تجعل دولة متوسطة تصمد أمام قوى عظمى. ويمكن للمجتمعات الغربية والمعتادة على وسائل الراحة في عالم زمن السلم المعولم، أن تفقد الاهتمام بالهجوم، عكس سكَّان روسيا، الذين حرّكتهم آلة الدعاية الخاصة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحشدتهم في مجتمع زمن الحرب. ووفق بعض السينايوهات فمع طول أمد الحرب سوف تبرز الخلافات والتجاذبات وتبدأ كل دولة تبحث عن مصالحها، وهكذا تكون روسيا قد حققت نصرا استراتيجيا، ويخرج بوتين بطلا منتصرا على الصعيد الشخصي بازدياد شعبيته باعتبار الحرب ضد روسيا حرب وجودية. إذ تصر روسيا على تصوير الحرب على أنها حرب ضد الغرب عموما، وهيمنته وثقافته، تدار بالوكالة على الأرض الأوكرانية، وهو ما يعزز الشعور القومي الروسي. وقد تدفع أزمة الطاقة واشنطن للبحث عن بدائل، لإحياء مشروعات إنتاج وتصدير غاز شرق المتوسط، بعيدًا عن مشروع خط غاز شرق المتوسط الذي تخلت عنه واشنطن، لأنه مرفوض من قِبل تركيا، ورغم أن الولايات المتحدة وحلفاءها لديهم ما يبرر أملهم في تحقيق نصر سريع لأوكرانيا والعمل من أجله، يرى صانعو السياسة الغربيون أيضاً استعداد روسيا لقتالٍ ممتد. ولكن أدوات السياسة المتاحة لهم -مثل المساعدات العسكرية والعقوبات- قد لا تؤثر كثيراً في موعد نهاية الحرب الأوكرانية. وبالنسبة للدول الغربية فإن أقصى دعم عسكري لأوكرانيا هو ضروري بغض النظر عن مسار الحرب. وتراهن الدول الغربية على أن تؤدي العقوبات التي تستهدف روسيا، لا سيما تلك التي تستهدف قطاع الطاقة، إلى تغييراتٍ في الحسابات الروسية بمرور الوقت، بشكل لا يجعل نهاية الحرب الأوكرانية بعيدة. ولكن لا يكمن التحدي الرئيس في طبيعة الدعم المقدم لأوكرانيا، إنما يكمن في طبيعة دعم الحرب داخل البلدان التي تدعم أوكرانيا، في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والعاطفة التي تُحركها الصور، يمكن أن يكون الرأي العام متقلباً. ولكي تنجح أوكرانيا في التصدي للغزو الروسي، سيتعين على الرأي العام العالمي التمسُّك بدعمها بقوة، وسيعتمد هذا، أكثر على قيادة سياسية ماهرة وصبورة سواء في أوكرانيا أو داعميها الغربيين الرئيسين. ولدى بوتين أسباب عديدة لعدم إنهاء الحرب التي بدأها لإنه ليس قريباً من تحقيق أهدافه الرئيسة حتى الآن. ولم يكن أداء جيوشه جيداً بما يكفي لروسيا لإجبار أوكرانيا على الاستسلام، وروسيا بعيدة جداً عن إسقاط الحكومة الأوكرانية. لقد كانت إخفاقاته علنية بعد انسحابه المفاجئ من المناطق المحيطة بكييف، ولا بد أن الجيش الروسي يشاهد زيلينسكي، يستضيف زواراً أجانب في العاصمة مع إعادة فتح السفارات. لقد دفع بوتين بالفعل ثمناً باهظاً نظير هجومه ومن وجهة نظره فإن أي اتفاق سلام مستقبلي لا ينتزع تنازلاتٍ كبيرة من أوكرانيا سيكون غير متناسب مع الخسائر في الأرواح، وفقدان العتاد، والعزلة الدولية التي فرضت على روسيا. بعد أن حشد الروس للهجوم -الذي استدعى رمزياً صراعات مثل الحرب الوطنية العظمى للاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا النازية- قد لا يقبل بوتين بسلام مزعج. لقد دمَّر الهجوم علاقة روسيا بأوروبا والولايات المتحدة. وسوف يدمِّر الاقتصاد الروسي بمرور الوقت، بينما يدفع أوكرانيا إلى الغرب أكثر. وفي نفس الوقت فإن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا سوف تؤدي إلى فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي، الاستثمارات الخارجية سوف تنتهي، وسيصعب الحصول على رؤوس الأموال ونقل التكنولوجيا سيتعطل، وستغلق الأسواق في وجه روسيا، وهذا قد يتضمن أسواق غازها ونفطها، التي كانت مبيعاتها أساسية في عمليات تحديث الاقتصاد الروسي التي حققها بوتين. في السياق ذاته، فإن القدرات الاقتصادية والاستثمارية ستغادر روسيا. الآثار الطويلة الأجل لهذه التحولات لا تخفى، إذ كما رأى المؤرخ بول كينيدي في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى" The Rise and Fall of the Great Powers تنزع دول كهذه لخوض حروب خاطئة كي تتعامل مع أعبائها المالية. لقد فقدت كييف بعد ستة أشهر من انطلاق الحرب 20 % من أراضيها، و20 ألف جندي، كما أن الاقتصاد الروسي تأثر بسبب الحرب، وشهد العالم أزمة طاقة وأزمة غذاء لأن الدولتين تنتجان 30 % من القمح والزيوت والأسمدة. الحروب تمر بحالات مد وجزر وغزو بوتين لأوكرانيا ليس استثناء. في البداية سادت مخاوف من أن تحقق روسيا انتصاراً سريعاً لكن المقاومة الأوكرانية والانسحاب الروسي بدد تلك المخاوف، فحولت روسيا تركيز هجومها إلى الشرق. إنها معارك الاستنزاف والاستدامة في الحروب اللامتناهية. تمتلك روسيا ترسانة نووية مهولة ويتخوف العالم من جنوح موسكا لها لم يتوقع كثير من المراقبين الدوليين استمرار الحرب كل هذه المدة التلفزيون الروسي يستعرض الحقيبة النووية في رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأسره
مشاركة :