نجحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، للأسف الشديد، في شغل الرأي العام الفلسطيني بقضية مهمة جداً تمس عصب حياة المواطنين في الضفة والقطاع وهي قضية المعابر، كان ذلك في محاولة لتضليل الناس بأنها تسعى لإيجاد حل عملي لهذه القضية من خلال تشغيل مطار “رامون” في وادي “تمنة” أقصى جنوب صحراء النقب، وفتحه أمام حركة سفر المواطنين الفلسطينيين، والذين يعانون الويلات من شبه الإغلاق التام لمعبر رفح كجزء من حالة الحصار المفروضة على أهلنا في قطاع غزة، الذي يعتبر أكبر سجن في العالم، حيث يقطنه حوالي مليوني إنسان محرومين من الحد الأدنى من حقوق الإنسان سيما الحق في السفر والتنقل، حيث أن معدلات حركة الأفراد من وإلى القطاع تكاد لا تصل نسبياً إلى حركة المعتقلين بين السجون، أو زياراتهم الشهرية في أيٍ من المعتقلات والسجون الإسرائيلية. وقد ترافق انفجار هذه القضية مع أزمة خانقة، وربما غير مسبوقة على معبر “الكرامة- الملك حسين – اللنبي”، بعد موسم الحج والعطلة الصيفية، وتزايد معدلات حاجة الناس للحركة سيما بعد إلغاء أو تخفيف إجراءات جائحة كورونا، ولكنه كان من الواضح أن حجم هذه الأزمة يأتي في سياق تعميقها بفعل فاعل ليصبح اقتراح مطار “رامون” وكأنه الحل الذي يأتي من قبل سلطات الاحتلال وتمنُّ على الفلسطينيين به، بهدف حرف الأنظار عن دورها ومسؤوليتها في خلق وتعميق تلك الأزمة، فالأهم بالنسبة لها هو أن يتم تشغيل هذا المطار، ومرة أخرى على حساب حق المواطن الفلسطيني بحرية الحركة والسفر . في هذا السياق علينا، ونحن نناقش هذا الأمر الذي بات يحتل الحيز العام لأهميته، أن نتفق بأن هناك خطا أحمر يُمنع علينا تجاوزه وهو أن يتم إلقاء اللوم على المواطن السجين المحاصر في قطاع غزة، والذي يعاني من الحصار الإسرائيلي الخانق أساساً، ولكنه يعاني أيضاً من فكي كماشة التقنين الذي لا يعيشه أو يحتمله أي إنسان على وجه الأرض إزاء حركته عبر معبر رفح مع الشقيقة مصر، أو شبه استحالة قدرته على المرور المفتوح من معبر الكرامة مع الأردن، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قيمة الرسوم وتكاليف سفر المواطن الفلسطيني، بالإضافة إلى غياب احترام آدميته على جانبي المعبر، هي مبالغ لا يتكلفها أي إنسان في العالم بأسره، في وقت أن معدلات دخل المواطن الفلسطيني ربما هي الأدنى في المنطقة والعالم، سيما في ظل ما يعانيه من أشكال متنوعة من الحصار والسيطرة وتقييد حرية التجارة ونهب ثروات وموارد فلسطين الطبيعية ومجالات العمل لاستثمار هذه الموارد. حكومة الاحتلال التي تشكل السبب الرئيسي، وربما الوحيد لأزمات الفلسطينين المتنوعة، يتلخص دورها في التضيق على حياة الناس ضمن خطة طويلة الأجل تستهدف تجفيف مصادر وسبل حياتهم في هذه البلاد، وأن ما تقدمه من خطط وحلول زائفة، تأتي في سياق ما تسميه إسرائيل”السلام الاقتصادي” والذي لا يتجاوز معيارين جوهريين؛ أولهما الحفاظ على الوضع الراهن من طبيعة حياة الفلسطينيين وأشكال السيطرة عليهم والتحكم بهم كما هي، وإشغالهم باستمرار في قضايا ثانوية بعيدة عن جوهر الصراع، وضرورة إنهاء هذا الاحتلال، بما في ذلك ادعاء سلطات الاحتلال أنها تعمل على تمكين السلطة، ولكن بما لا يتجاوز القدر الذي يبقيها منهكة ومعزولة عن الحاضنة الشعبية حتى تظل تحت رحمتها ولا تمتلك من أمرها سوى أن تسير في فلك مخططاتها، وأنها أي إسرائيل هي مرجعية بقاء السلطة ذاتها، و أنها هي “الحريصة” على إيجاد حلول عملية لأغراض سياساتها الاحتلالية الهادفة لإجبار الناس والسلطة معاً على القبول بالأمر الواقع، ومنع إمكانية تغييره، والمتمثل أساساً بإنهاء الاحتلال، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره واستعادة كامل حريته على أرض وطنه. السؤال الجوهري والحقيقي الذي يكاد يختفي كالإبرة في كومة القش القابلة للاشتعال في أي لحظة هو: حقيقة موقف السلطة الفلسطينية وحكومتها وأجهزتها ليس فقط من الجدل حول مطار “رامون”، والذي بات يتحول لأزمة إقليمية تطال علاقات السلطة الوطنية نفسها، بل ما هو موقف ودور السلطة الوطنية وسلطة الأمر الواقع من مجمل أزمة حركة وحق المواطن الفلسطيني بالسفر والحركة والتي تتحكم فيها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بصورة مطلقة. ولإلقاء الضوء على هذا الأمر علينا أولاً أن ندقق في بعض القضايا الأساسية، وأولها ما يسمى بالبنود المتصلة بالمسؤولية عن تشغيل المعابر وحق المواطن الفلسطيني في الحركة، ودون الكثير من التفاصيل، فإن بنود الاتفاقية المدنية وتشابكاتها الأمنية الخاصة بالمعابر كانت تنص على حق المواطن الفلسطيني في الضفة والقطاع بحرية السفر من أي من المعابر المحددة بالاتفاقية وهي رفح واللنبي، بما في ذلك حق السفر عبر مطار بن چوريون، والعودة من أي معبر يريده المواطن نفسه، هذا الاتفاق الذي قامت حكومة الاحتلال عملياً بإلغائه تماماً ضمن انتهاكات جوهرية أخرى شملت معظم بنود البروتوكول الانتقالي الذي نظم نقل السلطات المدنية بالكامل للسلطة الفلسطينية بعد تنصيب المجلس التشريعي عام 1996، وحكم آلية العلاقة والتداخل بين الطرفين في إطار مسؤولية التنسيق الذي من المفترض أن تشرف على تنفيذه ما يسمى بلجنة الارتباط المدنية الفلسطينية الإسرائيلية العليا، والتي تتلخص وظيفتها في التنسيق بين جهات الاختصاص المدنية المختلفة وليس الإحلال محلها كما هو واقع الحال اليوم، والذي أعاد فعلياً ورسمياً إحياء مؤسسات هيكل الاحتلال التي وضعت مجدداً مجمل الصلاحيات في يد ما يسمى بالإدارة المدنية الإسرائيلية ولسلطة منسق حكومة الاحتلال. الملفت، أنه وفي سياق البحث عن أسباب تجاوز قرارات المجلس المركزي إزاء العلاقة مع إسرائيل التي لم تعد تلتزم بأي من بنود الاتفاقات التي تنظم علاقتها بالسلطة الفلسطينية، جرى تبرير ذلك في حينه بإعادة العلاقة والتنسيق الأمني على أساس الرسالة التي قدمت من سلطات الاحتلال موقعة من “المنسق” بأن إسرائيل تلتزم بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الفلسطيني. والسؤال ماهي القضايا التي وردت بالاتفاقيات وحتى لو حصرناها بالبروتوكول المدني فقط، ومدى التزام سلطات الاحتلال بها، ناهيك عن المسؤوليات المتصلة بالأرض سواء المتعلقة بالتخطيط والتنظيم وما يسمى بمناطق “أ” والاجتياحات وغيرها، وكلها انتهاكات متصلة، وليس فقط تلك المتصلة بحرية الحركة وتشغيل المعابر أربعة وعشرين ساعة وعلى مدار أيام الأسبوع وطوال العام باستثناء عيد الأضحى للمسلمين ويوم الغفران لليهود كما كانت تنص الاتفاقية الانتقالية. بل إن القضايا التي يتم تقديمها وكأنها إنجازات سواء تلك المتصلة بإجراءات نقل العناوين، أو تصاريح الزيارة والعمل، وما يسمى بلم الشمل ومنح حق الإقامة، فهي بنود معطلة منذ سبتمبر عام 2000، وبات التعامل الجزئي جداً والاستثنائي معها مؤخراً وكأنها “تسهيلات استثنائية” تمنح وتحجب، وليس حقوق مكتسبة للناس حتى قبل إنشاء السلطة ذاتها وفق اتفاق أوسلو. بل، إن مضمون الاتفاق المدني الانتقالي الخاص بسجل السكان، والذي كان في حينه ورغم كل القيود التي تضمنها يشكل بمجمله “سجل سكان لدولة ناقص” ولمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات يتحول لصلاحيات كاملة فلسطينية، وقد بات اليوم بأكمله صلاحية عسكرية إسرائيلية تحت مسؤولية الإدارة المدنية للاحتلال. هذا هو الذي يجب التوقف عنده ، والمتمثل أساساً بمسؤولية السلطة الوطنية في مجابهة الإجراءات الإسرائيلية التي حولت الحقوق المدنية الانتقالية لمجرد هبات وتسهيلات واستثناءات، بما في ذلك حق حرية السفر والتنقل بين المناطق والمدن الفلسطينية، وبين فلسطين والعالم وليس فقط دول الجوار، وهنا هي جوهر الأزمة. الأمر الذي يمكن تشبيهه بمن رزق بمولود بعد سنوات عجاف فاشترى له بكل ما يملك ملابس تغطيه لثلاث أو خمس سنوات، واذ بهذا الطفل يصبح عمره 28 عاماً”1994-2022″ وهو لا يملك سوى ملابس طفولته حتى بات عارياً وهذه قصتنا مع أوسلو الانتقالي الذي بات اطاره مؤبداً بعد تفريغ أي مضمون له من محتواه ، ودون أي التزامات اسرائيلية سوى الاستمرار “بالتنسيق الأمني لعله يغطي هذا الوليد .” إن المشكلات المزمنة التي يعاني منها أبناء القطاع في حركتهم نحو الأردن الشقيق، والتي للأسف تُميِّز بينهم وبين أبناء الضفة، لم تحظ بالاهتمام الحقيقي من قبل السلطة الوطنية ومؤسساتها المختصة منذ نشوئها، كما أن إبقاء حال العلاقة والمسؤولية إزاء حركة أبناء القطاع في إطار مسؤولية حركة حماس كسلطة أمر واقع مع الأشقاء في مصر، والفشل المزمن في التوصل لصيغة رسمية لتنظيم هذه الحركة مجدداً وفق اتفاقية المعابر لعام 2005، والتي تضمن دوراً أوروبياً يراقب تنفيذها لصالح انسيابية حركة المواطنين والبضائع دون إعاقة، وبديلاً عن ذلك ظلت حركة حماس مصرة على أن يشمل انقلابها إجراءات تمس المسؤولية الرسمية الفلسطينية على معبر رفح، كما انجرف بعض مسؤولي السلطة لتبرير قيود واجراءات الأشقاء في مصر في إطار مناكفات الانقسام، وللأسف على حساب كرامة وحق المواطن، بدلاً من حماية حقوق الناس والتوصل لحلول وسط تحيّد حالة التجاذب والانقسام السياسي إزاء هذا الحق الطبيعي للناس. الأزمة المتفجرة اليوم حول قضية المعابر ومطار “رامون” يجب أن تعود لأصلها، بأن تتحمل السلطة الوطنية الفلسطينية كامل مسؤولياتها في حماية حق المواطنين الفلسطينيين وحرية حركتهم وسفرهم من كافة المعابر الموجودة، وأن تطالب العالم والأشقاء العرب بالتدخل الملموس لإلزام إسرائيل بقواعد القانون الدولي واتفاقية جنيڤ التي تضمن للمواطنين الفلسطينيين حرية السفر من حيث المبدأ باعتبارها سلطة احتلال، وأن تعود للالتزام بقواعد اتفاقية المعابر التي تضمن وتنظم هذا الحق دون أي قيود، بما ذلك تشغيل الممر الآمن بين الضفة والقطاع، وأن تتوجه في نفس الوقت للأشقاء في مصر والأردن لمراجعة إجراءات وقيود ورسوم السفر، وبما يضمن حرية حركة أبناء الشعب الفلسطيني إلى ومن خلال هاتين الدولتين الشقيقتين وصون كرامة المسافرين وعدالة الرسوم المفروضة عليهم. في كل الأحوال، إن استمرار التعامل مع سلطات الاحتلال على قاعدة التسليم الواقعي بأنها تمتلك كافة الصلاحيات التي سبق ونقلت ولو جزئياً للسلطة الوطنية، إنما يلغي فعلياً دورها في الدفاع عن الحقوق والمصالح الجماعية للمواطنين، سيما إذا استسلمت السلطة لمجرد دور الوسيط، كما كان دور المخاتير خلال سنوات الاحتلال قبل نشوء السلطة الوطنية، عند صاحب الصلاحية أي سلطة “الإدارة المدنية” و”المنسق”، فإنها بنفسها تلغي دورها ومبرر وجودها، ولعل هذا ما يفسر صمتها، ويفتح الباب للتكهنات المحلية والاقليمية إزاء موقفها ودورها المُلتبس. صمت السلطة الوطنية على مصادرة إسرائيل لصلاحياتها وإعادة تركيزها في يد “الإدارة المدنية في يهودا والسامرة” كما تعرف نفسها وتتخاطب مع الجانب الفلسطيني بها، والانخراط في حلول ترقيعية مؤسفة مثل اختراع تسهيلات حركة فئة من المقتدرين مالياً على المعابر مقابل رسوم باهظة جداً على المسافرين، وليس إعادة الأمور إلى نصابها، وعلى الأقل وفق مانصت عليه الاتفاقيات “المتقادمة” والمنتهكة من قبل سلطات الاحتلال هو الذي يضعنا جميعاً في هذه الدائرة الجهنمية من تبادل الاتهامات والجدل بين مواطني الضفة و غزة، وبين المقتدرين وغير المقتدرين، وبين الناس والمسؤولين واليوم بيننا وبين الأشقاء في الدول المجاورة، وإسرائيل تقدم نفسها كمنقذ للضحايا وللأزمة في وقت أنها شر البلاء. وهذا تماماً ما يحدث مع تشغيل العمال في الداخل والأزمة التي تتفاقم بينهم وبين حكومة السلطة إزاء مسألة ايداع رواتبهم في البنوك، وجوهرها مدى الثقة بحرص السلطة على حقوقهم ومصالحهم الذي سبق وعشناه في ما عرف بأزمة قانون الضمان الاجتماعي. هذا ما يجب على السلطة الوطنية تداركه بسرعة، والتوقف عن المضي في حروب أجنحتها الطاحنة، والعودة مجددا لمتطلبات توحيد الصف، والدفاع عن قضايا ومصالح وحقوق الناس، وعدم السماح لإسرائيل الاستمرار بتضليل الشعب الفلسطيني والعالم على حد سواء، الأمر الذي لا يعالج بتصريحات جوفاء وكلام لا رصيد له في الواقع، بقدر ما هو مكون جوهري من خطة مراجعة شاملة جوهرها أن مرجعية السلطة هو الشعب الفلسطيني ومصالحه وحقوقه الوطنية الثابتة، وليس رضى ودعم إسرائيل لهذا المسؤول أو ذاك.
مشاركة :