الانهيار الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية، يوّلدُ يومياً مظاهر متنوعة من أشكال الفوضى ومظاهر الضعف والشلل، وكذلك الوجه الآخر لفوضى السياسة هذه والمتمثل في الانكفاء على الذات، وانعدام المبادرة المطلوبة لجهة ترتيب البيت الداخلي واستعادة الوحدة في إطار مراجعة سياسية شاملة باتت تشكل حجر الزاوية التي يمكن أن تخرجنا جميعًا من عنق الزجاجة، وتفتح في نفس الوقت الطريق لاستعادة مكانة قضيتنا الوطنية على الصعيد الدولي . صحيح أن صعود اليمين الفاشي إلى سدة الحكم في إسرائيل، يساهم بدرجة أو بأخرى في تعرية حقيقة المشروع الصهيوني، والذي رغم أزمته وفشله في فرض حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن هذا اليمين يعتقد أن خروج الصهيونية من أزمتها التاريخية يتطلب تصفية القضية الفلسطينية واستكمال تمزيق المشروع الوطني الفلسطيني، ويرى أن توليه مسؤوليةً مباشرة عن الاحتلال والأمن والتوسع الاستيطاني يمثل بالنسبة له فرصة تاريخية متاحة للخروج من أزمته تلك، وأن يتوج ملكًا على “أرض الميعاد” ليفرض الشريعة اليهودية على أرض فلسطين التاريخية وعلى أنقاض قضية شعبنا، تمهيدًا للتهجير ليس إلّا. هذا في وقت أن الحالة الفلسطينية للأسف عاجزة عن استثمار هذه الأزمة، وما زالت تغرق في وحل أزمتها . في هذا السياق لعلنا نلاحظ أنه باستثناء بعض الأعمال العسكرية ذات الطابع الشعبي، فالساحة الفلسطينية تعيش حالة خواء سياسي وتفرض طوقًا من العزلة الذاتية، التي تجعل حتى مثل هذه الأعمال دون أي غطاء أو أفق سياسي، وعرضة للتصفية جراء التواطؤ عليها أو المتاجرة بها، واللذين يولدان قدرًا خطيرًا من التناقض في الرأي العام الدولي الذي من المفترض أنه بات يقف على حقيقة العنصرية الصهيونية التي تهدد استقرار المنطقة. نعم، القضية الفلسطينية باتت فريسة العنصرية الهمجية للاحتلال، جراء عوامل متعددة ومتداخلة، ولكن لا يُستثنى منها أن هذه القضية أصبحت أسيرة عزلة من الرفضاوية والشعاراتية الرنانة، وكذلك من السياسة الاستسلامية لهذا الواقع، فكلاهما وجهان لعملة واحدة تتميز بتغييب الحوار ليس فقط بين وكلاء الانقسام وغوغائية تبادل الاتهامات بينهما، بل وفي أوساط المجتمع الذي يفتقد لرؤية بديلة جامعة، مما يزيد من حالة البلبلة ويعزز بيئة التشكيك التي يمارسها العاجزون والمتصيدون في المياه العكرة تلك . مناسبة هذا الكلام، هي عبث بعض الأصابع التي تعتقد أنها خفية، لتشويه بعض الاجتهادات في محاولة شجاعة لاختراق حواجز العزلة التي تحاول أن تفرضها المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وأدواتها للاستفراد بشعبنا وقضيته. فمثلاً المداخلات التي قدمها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، وليس دفاعًا عنه، فهو لا يحتاج ذلك، قد عرضت ليس فقط السردية الفلسطينية، بقدر ما قدمت أيضًا رؤية جليّة تكشف زيف الرواية الصهيونية وازدواجية معايير حلفائها، سواء لجهة ما يسمى “بديمقراطية” إسرائيل التي نشأت على العنصرية ضد الفلسطينيين بدءًا بنكبة الشعب الفلسطيني، ومرورًا بما يسمى قانون القومية العنصري، وعنصرية المحكمة العليا التي ردت الاعتراض على هذا القانون بعشرة أصوات من القضاة اليهود، خالفهم الرأي قاض واحد وهو فلسطيني. الأمر الذي يفضح تسلل تلك العنصرية حتى للمحكمة العليا، و مع ذلك يسعى اليمين الفاشي إلى إحكام قبضته الكاملة عليها رغم ذلك كله، وهي التي لم تعارض يومًا سياسات الاضطهاد التي مارستها حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة. الأولوية للمراجعة السياسية واستعادة وحدة التمثيل ناهيك عن إعلاء الأولوية في مرافعة فياض للوحدة الوطنية على أي اعتبار آخر، بما في ذلك الحاجة لإبقاء الجسور التي بنتها منظمة التحرير مع العالم، ولكن هذا لا يعني الاستسلام لما يسمى شروط الرباعية كأساس لقبول العالم التعامل معنا. أولولياتنا تكمن في وحدة الصف الفلسطيني، الأمر الذي يتطلب تجاهل مثل هذه الشروط بالمطلق. أو أي لغة بهذا المعنى. فهذه الجسور ومعها المنظمة قد تصبح حطامًا إذا استمر الانقسام واستمرت معه عملية تقويض مكانة المنظمة التمثيلية التي يجري الصراع الانقسامي عليها ويهدد مكانتها، وهو ما سعت إليه إسرائيل دومًا، وهي تعمل على تعميقه كمعول للانقضاض على حقوق شعبنا، بالإضافة لدعوته التي لا تقبل التأويل للخروج من مسار أوسلو، حيث اعتبر فياض في مرافعته أن جوهر أسباب فشل هذا المسار يتمثل بعدم اعتراف أيٍ من حكومات إسرائيل المتعاقبة بحقوق شعبنا الوطنية، وفي مقدمتها حقوقه في الحرية، وفي العودة، وفي تقرير المصير، ودولة مستقلة كاملة السيادة، معتبرًا ذلك شرطا لاستعادة أي عملية سياسية يجب أن تهدف لتطبيق هذه الحقوق وليس تبديد سنوات أخرى في التفاوض حول ما إذا كان لدينا مثل هذه الحقوق، وهو الأمر الذي تنكره إسرائيل وما زالت تتنكر له. وبالتأكيد أن إجبار إسرائيل على ذلك يحتاج لتغيير في موازين القوى التي تحتاج بادئ ذي بدء إلى الوحدة في إطار احترام وتكريس التعددية في الأطر الوطنية الجامعة، وخاصة في إطار منظمة التحرير كي تعود لطابعها الجبهوي الائتلافي العريض بمشاركة جميع القوى التي ما زالت خارجها، ومخاطبة العالم برواية واستراتيجية واحدة . شعبنا لن يصمت طويلاً على الشعاراتية والاستسلام أن يخرج البعض ببيانات الإدانة المستندة إلى ترويج فبركات حتى قبل أن يشاهد طبيعة المؤتمر ومداخلات المشاركين، بما في ذلك مداخلة فياض نفسه في رده على بيكر وبرباره ليف، إنما هو جزء من وجهي العملة الشعاراتية والاستسلامية على حد سواء. وليس غريبًا أن ترويج تلك الفبركات يبدو أنه يتم من قطبي الرحى، وبالتأكيد فإن المؤسسة الإسرائيلية تعمل جاهدة على ترويج هذه الافتراءات، كونها أكثر من يدرك خطر مضمون المرافعة التي قدمها فياض في تعرية أكاذيب حكومات الاحتلال. وأدعو هنا القراء إلى العودة لموقع معهد بيكر للاطلاع على طبيعة المؤتمر الذي يُقيّم مسار إسرائيل خلال الخمسة وسبعين عامًا الماضية وليس الاحتفال بها كما يروج المتصيدون، وأيضاً الاطلاع على مضمون مداخلات فياض التي نشرها على صفحته الفيسبوكية بالصوت والصورة، والتي نقلته العديد من الصحف والمواقع الفلسطينية والعربية . مرة أخرى، هذا الكلام ليس فقط دفاعًا عن أهمية خطاب فياض من حيث المضمون والمقام الذي قُدم أمامه، بل هو وقبل ذلك دعوة للكف عن تقويض الحاجة للحوار والاجتهاد، لعلنا نستجمع بعض قوانا لنتمكن من الخروج الآمن من عنق الزجاجة، وأن ننجو من سموم تلك التشويهات وغيرها من آفة ادعاء احتكار الحقيقة التي تكاد تخنق قضيتنا مهما كانت الادعاءات الثورجية والشعاراتية لمروجيها. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
مشاركة :