بقلم أ / أبكر سليمان (هذا ليس مهماً يا أبي أنا أريد أن أكون سعيداً فحسب، أريد أن أفعل شيئاً له معنى وقيمة في حياتي). هذا ما قاله باولو كويلو لوالده الذي حاول إقناعه للتخلي عن حلمه إذ ظل هذا الأخير يردد طوال سنوات “لا أحد لا أحد يمكنه الحصول على لقمة العيش من خلال الكتابة”. لم يشعر باولو بأنه ضحية بل شعر بانه شخص مغامر يبحث عن كنز، عن شيء مهم بالنسبة له! ، حاولا والديه بشتى الطرق إقناعه ليصبح مهندساً كوالده لكنهما أصيبا بالإحباط في كل مرة يسمعان فيها رد ابنهما المتمرد ، كانا قلقين جداً عليه حتى أنهما ظنا بأنه قد أصيب بالجنون وهو الآن في أمس الحاجة إلى المساعدة فقررا معالجته بإرساله إلى المصحة النفسية عندما كان في السابعة عشر من عمره. و في عام 1987م أصدر أول كتاب له بعنوان “الحج” روى فيه قصته الشخصية في رحلة الحج التي أداها من أجل البحث عن الذات واكتشاف المعنى الحقيقي لوجوده ، تلك الرحلة أحدثت ثورة في حياته وجعلته يدرك حقائق عميقة غيرت الطريقة التي كان ينظر فيها الى العالم فلولا ذهابه لتلك الرحلة لما عرفنا باولو كويلو كما هو عليه اليوم. والجدير بالذكر أن المكان الذي زاره و المذكور في روايته تحول إلى مزار يهوي اليه الناس من كل فج عميق! حتى يومنا هذا. من مطار العاصمة البرازيلية غواروليوس في ساوباولو التي انجبت كاتبنا العظيم نحلق متجيهن الى مطار الكويت ، من هناك وبعد أن حازت على درجة الماجستير وتسلمت شهادتها بيدها اليمنى ، كان الفراغ الداخلي يشد على يدها الأخرى! ذلك الفراغ الذي يجعلك هنا ولست هنا تتنفس لكنك لا تشعر ، اللحظات كئيبة و الأيام ثقيلة وكأن الكون كله متآمر ضدك ! و بعد طول ظلام قررت دفع نفسها الى الحياة من جديد ولكن كيف السبيل؟. اختارت أن تبتعد قليلاً عن محيطها الآمن الذي تعودت عليه -كما اخترق كولومبوس البحر ذات تاريخ – لعلها تظفر بذاتها! كما ظفر هو الآخر بأرض الاحلام. جمعت كل مدخراتها لسنواتها التي مضت ، قطعت تذكرة ذهاب و عودة إلى رحلة قد تكون بلا عودة ! أوصت أختها بأنها ستسافر الى مكان بعيد محددةً بذلك موعداً لتلقي رسالة اطمئنان في حال أنها نجت ! و إلا ، فقد تكون غدت حفنة من رماد أو شيئاً من ذكريات . صعدت إلى الطائرة وحبال السلامة ملتصقة بها كأخطبوب يجوب البحر ذات زمن! أو تخيلتها كذلك! ارتفعت الطائرة عن الأرض ، بضعة أمتار من فوهة البركان ! نعم بركان! بركان فاغراً فاه ذي بطن لا يشبع من التهام كل ما تجود به الرياح! الحمم تغلي مصدرةً موسيقى تنم عن جوع شديد! (اي خطر مهما كان بسيطاً سيدفعنا دون تفكيرالى قطع حبال الآمان)! (كان ذلك آخر تحذير لها من القائد) ذلك انه لا سبيل لنجاة الآخرين الا بهذا الحل الوحيد. الجميع يترقب ، الدقائق مثقلةٌ بالخوف و الرعب كأنها أيام و شهور ، قطع الحبل يعني ببساطة قطع للحياة! خسارة للمال و خسارة أكبر لإنسان ذنبه الوحيد انه ذهب باحثاً عن معناه (هذا أن كان ذلك ذنباً). الجميع يترقب هل انتِ مستعدة ؟ قفزت لتلقي بنفسها في النار كما ألقى موسى عصاه ذات نبؤة ، ذهب موسى باحثاً عن النار فتجلى له النور و هذه الأخرى ألقت بذاتها المستعارة في النار لتظفر بذاتها الحقيقية ، لتظفر بمريم السلطان. كانت هذه واحدة من عشرات المغامرات الى صقلت روحها و نحتت شخصيتها فـ “السفر نحت للشخصية” كما تكرر ذلك دائماً ، إنها شجاعة يا رفاق أن نقف أمام ذواتنا مثل نحات يقف أمام صخرة يحررها من الزيف ومن كل ما لا يليق بها ليرى ذاته الحقيقية ماثلةً امامه. فماهي الشجاعة يا رفاق ان لم تكن المغامرة و المخاطرة بالمعروف من أجل المجهول! نتخلى عن المألوف لأجل الغير مألوف ، المريح لأجل الغير مريح ، حج نقوم به الى جهة غير معلومة ،هذه هي المغامرة و المغامرون فقط هم من يعرفون ماهي الحياة. عادت مريم الى امنا الارض بسلام وعدنا نحن الى رحلة حج أخرى ، حج الى ذواتنا فنحن في الحقيقة حين نذهب الى مكان ما نحن نذهب عميقاً الى ذواتنا ، ها نحن الان في شهر ذي الحجة حيث يشهد المسلمون حدثاً عظيماً يسافرون فيه الى ذواتهم نعم فنحن لا نذهب الى أي مكان نحن فقط نعود الى فطرتنا النقية (عاد كيوم ولدته أمه) فذلك هو الظفر. في ذلك المكان نعود روحاً واحدة مع اننا من بلدان عدة و أطياف شتى متجاوزين الحدود النفسية و الجغرافية نعود إلى حقيقتنا متحررين من كل ممتلكاتنا إلا من إزارين أبيضين و بضعة حبات تمر و نفس تتوق الى فضل و عطاء المنان. هناك يمكن أن تتعرف إليك أكثر ، هناك يمكن أن تذبح الأنا الزائفة فيك و التي لطالما كنت تظنها أنت –تذبحها- بسكين الوعي كما فعل ابراهيم حين ذبح حب التملك ذات نبؤه! ففدي بكبش عظيم. هناك سيتبدل الخوف و التِيهُ الى يقظة روحية تدفعنا نحو الحياة دفعاً ، فكما قال الرافعي “ان الإنتقال مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لَا يَكُونُ الَا بالإنتقال مِنْ حَالِ الى حَالٌ , فَإِذَا سَافِرُ مَعَكَ الْهَمَّ فَأَنْتَ مَكَانَكَ لَمْ تَبْرَحْ”. هناك سندرك أن العمر لحظة تليها لحظة فإن أحسنّا استقبال هذه اللحظة فستكون التقوى رفيقتنا طوال رحلتنا في الحياة ، يقظه تدفعنا إلى الإنتقال من تقوى موسمية إلى تقوى دائمة بدوام الغفار. هناك سيكون كل فرد مشغول بتمهيد طريقه الى الجنة ، لا بمحاولة إثبات ان غيره سيدخل النار ، هناك حيث نستقبل سيل مغفرة إلهنا فأي نهر حينها لن يكون بإمكانه أن يجد أخيراً طريقه إلى البحر! و أي قلب حينها لن يجد طريقه إلى الحب و الحياة. كذلك سنكون وهكذا يجب أن نكون طول الحياة و عرضها. وهكذا في لحظة واحدة تتولد كل هذه المشاعر مثلما تتناسل الأمم من نطفة واحدة. وهكذا ستتجلى لنا الرؤى حيث سنختبر عمرنا الحقيقي بعمق تجربتنا الشعائرية فالعمر ان تختبر لحظتك بعمق شعوري ، لا بعبث طفولي. وهكذا يعود الحج كل عام ليغسل نفوسنا من غبار أنانيتنا ومن الأوهام العالقة بنا ، وهكذا لا ننتهي أبداً من صنع أنفسنا مثل نحَّات يقف أمام صخرة يخلصها من كل ما هو غير ضروري وغير جوهري. وهكذا يظل السفر ينحت شخصياتنا في كل مرة نسير فيها نحو المجهول. فليست الأَشْيَاءُ الَّتِي تَخْتَارُنَا, بَلْ تِلْكَ الأَشْيَاءُ الَّتِي نَخْتَارُهَا بِإِرَادَتِنَا هِيَ مَا تشَكِّلُ فَارِقًا عَظِيمًا فِي حَيَاتِنَا.
مشاركة :