على الرغم من أن كلمة «الحب» هي مصطلح مشوش، إلا أنه يظل المصطلح الأكثر شيوعاً واستخداماً لدلالته وتعبيره عن إنسانية الفرد. نحن، على سبيل المثال، نحب «الكبسة»، ونحب فريقاً رياضياً معيناً، ونحب فيلماً أو أغنية معينة، ونحب أولادنا، ونحب زوجاتنا، ونحب والدينا، ونحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونحب الله خالقنا سبحانه وتعالى. فهل تستوي «الكبسة»، والفريق الرياضي، والأغنية والأولاد والزوجات والوالدين والرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ومحبة الله عز وجل؟ الجواب، لا. لكنه يجمع التعبير عن مشاعر مختلفة ومتفاوتة تحت مصطلح واحد. يقول الشاعر: الحب من سنن الحياة فإن تجد من لا يحب فإنه شيطان المشاعر الإنسانية تصبح عديمة القيمة والأثر من دون التعبير عن تلك المشاعر أو «الحب»، بصرف النظر عن المسمى، «فلا مشاحة في المصطلح» كما يقول الفقهاء. التعبير عن الحب أهم وأسمى من الحب ذاته. إذ يصبح من الصعب إقناع أولادنا، أو حتى زوجاتنا بمحبتنا من دون أن نعبر لهم عن تلك المشاعر التي أسميناها «حباً». وإذا استوعبنا ذلك، نقع في إشكالية أكثر عمقاً، وهي أن التعبير عن المشاعر يتطلب بالضرورة أن يتوافق مع متطلبات ومواصفات المحبوب. أن نلقي بحزمة من النقود لأولادنا أو لزوجاتنا أو نوفر طلباتهم الحياتية ظناً منا أننا عبرنا عن حبنا لهم، نكون حينها قد أخطأنا الهدف. حزم النقود، أو الوفاء بمتطلبات الحياة قد لا يفهمه الأولاد أو الزوجة دلالة حب، بل تلك مسؤولية على الوالد أو الأب أو الزوج يتعين عليه القيام بها. الإشكالية الأخرى، أن من نحبهم من البشر يتغير فهمهم ومتطلباتهم حول أساليب التعبير عن الحب بتغير الزمان والحال. فإذا كان الأولاد في مرحلة عمرية معينة يقنعون بشيء من المال، أو لعبة أو دمية أو فسحة من الوقت حضراً أو سفراً، وفهموا ذلك على أنه دليل محبة، قد لا يقتنعون أو يقنعون بذلك في مراحل متقدمة. وهنا نخلص إلى أربعة فوائد: أهمية الحب؛ التعبير عنه؛ أن يأتي التعبير على مواصفات ومتطلبات المحبوب؛ والفائدة الرابعة، أن يكون ذلك التعبير متطوراً بحسب العمر والحالة النفسية، مما يفرض تواصلاً دائماً مع المحبوب. حسن التواصل هو الوسيلة الوحيدة مع البشر ومع الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ومع الله سبحانه وتعالى. من جانب آخر، نجد أن قاموس الغزل الراقي آخذ في التلاشي بعد أن كانت الثقافة العربية سيدة قاموس الغزل وبنظرة عجلى على مجلدات الأشعار نكتشف تلك البراعة العربية في التغزل والتودد للحبيب والمئات، بل الآلاف من المفردات والمترادفات إمعاناً في الدقة وبلاغة الوصف. لنتمعن في براعة هذا الوصف في بيت الشعر العربي التالي: وأمطرت لؤلؤا من نرجس.. وسقت ورداً وعضت على العناب بالبرد تحولت الدموع إلى لؤلؤ والعيون إلى زهر النرجس، والخدين إلى وردتين، وأطراف الأصابع إلى ثمر العناب لوناً وجمالاً، أما الأسنان فتحولت إلى حبات برد صافي البياض. لكن انقراض الشعر أو خفوت ونضوب القريحة الشعرية أو شاعرية القريحة إنعكس سلباً على تلك المناحي الجميلة في الغزل مما يحيل الحياة والعلاقة مع المرأة إلى كثير من الروتين وبالتالي الملل. نضب الإبداع والابتكار والنحت في الغزل، واقتصر على أغاني تفقد بريقها بعد ترديدها في أكثر من مناسبة. المرأة كائن عاطفي يتجدد بالغزل المبتكر، وبقدر اختراع أساليب رقيقة وراقية في الغزل مع المرأة بقدر تفانيها في تأكيد أنوثتها التي قد تتلاشى بفعل أمرين: الجدب العاطفي بسبب نقص الغزل المبتكر؛ وبتسارع وقع الحياة والانشغال والتشاغل بأمور حياتية تحيل العلاقات إلى جحيم. في المقابل الغزل الرقيق والراقي والصادق والمستديم يعطي المرأة قوة لا يمكن تصورها لمواجهة ومكابدة الحياة وأهم ما في ذلك زلات الرجل وعنفوانه أحياناً. المرأة أيضاً، يلزمها شيء من الشفافية فيما تحب وتكره سماعه بصرف النظر عن موروثها التقليدي، ويتحتم عليها أن تبدأ وتبادر بالغزل، فالرجل مهما بلغ عنفوانه وجبروته ليس إلا طفل كبير يحب الدلال والتدليل ويعشق الغزل. ينشأ الرجل/ المذكر في بيئة تطالبه بالقسوة لمواجهة كبد الحياة وأن يتعود الوقوف في وجه الحياة بصلابة وقوة، يظل الرجل يلبس تلك المعاني سنة بعد سنة وعقداً بعد آخر حتى يرتبط بامرأة فتختلط عليه الأمور ويتشوش ذهنه ولا يجد مفراً من أن يغرف من موروثه الذي قد يكون منتهي الصلاحية، ولذا فإن على المرأة في مملكتها (المنزل) أن تأخذ زمام المبادرة وتحيل ذلك الوحش الكاسر إلى طفل مدلل. أخيراً، الغزل بين الذكر والأنثى بشكل عام هو وسيلة من وسائل التعايش، لكنها في البشر ترتقي بالعلاقات إلى مناحي إنسانية تجعل من الحياة جنة وتحيل الشقاء والمكابدة إلى سعادة أبدية. يقول الشاعر: تعب كلها الحياة فما أعجب إلا لراغب في إزدياد الغزل والكلمات الرقيقة لا تنبع إلا من أمرين: الثقة والقوة. القوي الواثق يتغزل، أما الضعيف المعقد، يتجبر ويكابر. الغزل والمغازلة فن يتطور بتطور الحياة، فيأتي في صفة نظرة أو لمسة أو كلمة أو بيت من الشعر أو أغنية ليست مستهلكة، أو وردة، أو رسالة نصية أو مكالمة هاتفية غير متوقعة. ليس لفن الغزل من ضوابط أو معايير أو مقاييس، ليس فيه خطأ أو صواب. الغزل هو لوح زجاجي ثنائي: ينبئ عن العقل والعاطفة في آن واحد. ختاماً، الطريقان التقليديان في العلاقة بين قلبي الرجل والمرأة التي تمثلت في «جيب ومعدة الرجل» أمست قديمة ومتهالكة، أو لنقل فرعية نشأ بدلاً منها أو معها طرق ومسالك أكثر جمالاً تتواصل مع العقل والروح. يشدو محمد عبده: أحب فيك الحب يا جامع اثنين الزين وطبوع تكمل حلاتك ينشد غازي القصيبي: إذا أهداك غيري عقد ماس منحتك من عيون الشعر دره طراديات الحب فن، ولغة، وحضارة ... قل لي كيف تحب أقل لك من أنت؟
مشاركة :