مع بداية كل سنة هجرية أو ميلادية أو دراسية، تتحفز النفوس الكبيرة لأن تجعل من هذه البدايات نقطة انطلاق جديدة، ومرحلة انتقالية للمحاسبة والمراجعة، يلتفت فيها العقلاء نحو ما مضى من أوقاتهم متسائلين بعقلية التاجر عن الربح والخسارة، ومتأملين بعين المفكر حجم الإنجازات وأسباب الخسارات، أما الآخرون فهم في سكرات الغواية، تأتيهم بصور مثبطة، وسلوكيات محطمة مثل: الكسل والملل، واحتقار الذات، والجهل بالأولويات، وغياب الطموح، ودنو الهمة، والتسويف والتأجيل، وعدم تنظيم الوقت، والانهماك في الترف، والانشغال بالأمور التافهة. ونستطيع حصرها في: غياب الوعي، والانشغال بالآخرين، وعدم استثمار الوقت.العقلاء يتحدثون عن النجاح باستمرار، ويتشوفون إلى بلوغه، ويسعون إليه بكل عزم وتفاؤل، باذلين ما في وسعهم، مؤمنين أن الحياة عبارة عن محاولة جريئة أو لا شيء، وأن الإقدام على الفعل هو الخطوة العملية والترجمة الفعلية للفكرة الجيدة، فالنجاح باختصار تحديد أهداف واضحة كبيرة، وتقسيمها إلى أهداف صغيرة، واكتساب عادات مفيدة جديدة، والمثابرة على فعلها بصورة مستمرة، يقول (أينشتاين): «الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين، بنفس الأسلوب، ونفس الخطوات، وانتظار نتائج مختلفة».الحديث عن الانشغال بالآخرين يطول ويتشعب، ولكننا لو تحدثنا فقط عن الانشغال في (الماجريات) لوجدناه عائقا ضخما، يبتلع الطاقات والأوقات، في السؤال عن ما جرى وما سيجري، من وقائع وأحداث وأخبار، فتتصيده شبكات التواصل وتغويه، ويبدأ بالفضول واختلاس النظرات هنا وهناك، وينتهي بالتفاعل والتواصل والانهماك، لا يتذكر أين بدأ، ولا يعرف متى ينتهي، ينتقل بين رسالة وتغريدة وصورة ومقطع مرئي، عقل مشتت ووقت ضائع ورأس محني، وإن سألته عن أمر فهو يدري ولا يدري، معلوماته سطحية ناقصة، مصدرها في الغالب غير موثوق، ويكتنفها التحيز والغموض، توازنه مضطرب، وعزيمته هابطة، انكفاءه على ذاته وميله للانعزال عن الواقع مستحيل، وانهماكه في الواقع وتفاصيله يلهيه عن حياته وأولوياته، فالانغماس في مستنقع (الماجريات) من أكبر عوائق الإنجازات. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال).الحديث عن استثمار الوقت يتجدد بتجدد الشواغل، ويتأثر بعدد من العوامل منها: وضوح الهدف، قوة الشخصية، الإيمان بقضية، التمتع بمرونة شخصية. ومن يطالع كتب السير والتراجم لأعلام الإسلام، يجد نماذج رائعة في حسن استثمار الوقت، وقد جمعت بعضها في كتاب: (البرامج اليومية لأعلام الأمة الإسلامية) وفي عصرنا الحديث نجد أمثال هذه النماذج الرائعة التي يدل على حسن استثمارها لأوقاتها، كثرة إنتاجها وعموم نفعها، وأول ما يتبادر إلى ذهني في هذا السياق، العالم الرباني الشيخ (محمد بن صالح العثيمين) رحمه الله، فإذا تأملت في كتبه وما تزخر به من علوم مختلفة كالتفسير والفقه والحديث وعلوم اللغة، ستجد نفسك تقف مدهوشا من تنوع العلوم، وبراعة العالم، وحجم العطاء والإنجاز، وما ذلك إلا بتوفيق الله أولا ثم بحسن استثمار الشيخ لوقته، ومن يطلع على الكتب التي كتبت في سيرة الشيخ رحمه الله، سيعلم كيف كان يقضي الشيخ وقته، عندها سيقل اندهاشه ويزداد إعجابه، آخر ما قرأت للشيخ كتاب في مجلد ضخم من ألف صفحة (فتاوى على الطريق)، عبارة عن أسئلة متنوعة استقبلها وجمعها الشيخ (أحمد القرعاوي) وقدمها للشيخ (بن عثيمين) ليجيب عنها في طريق عودته من الجامع إلى المنزل، خلال فترة طويلة امتدت عشر سنوات.في الختام نعود للبداية، فمنها نبدأ، وإليها نعود حتى ننطلق بدماء جديدة، ونوايا حسنة، متوكلين على الله عز وجل في جميع أمورنا، باذلين الأسباب حسب استطاعتنا، فالإنسان مسؤول عن السعي لا عن النتيجة.basem_slr@
مشاركة :