إشكالية الصمت والكتابة عند حسن النجار

  • 1/4/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يكتب حسن النجار قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، وهذه مزية تبعث على الفضول لدى الناقد بسبب اتجاه النقد نحو إقامة مقاربة بين نص نثري وآخر موزون في إبداع شاعر واحد، لكن الملاحظ على شعر النجار أن قصيدتي النثر والتفعيلة ترتقيان إلى الشعرية العالية، ولكي أجد ما يسوغ ما ذهبت إليه اخترت قصيدة من قصائد التفعيلة، وهذا الاختيار جاء على أساس اختبار إمكانات الشاعر في نمط مقيد (بالوزن)، إذ إن المتعارف عليه في اتجاهات المحدثين، أن الوزن يمكن أن يأخذ من لغة الشعر لتحقيق الإيقاع، القصيدة المختارة تقع ضمن مجموعة من القصائد تكثف رسالتها على موضوع معاناة الشاعر مع القصيدة، ومن أهم سماتها، اللغة المركزة التي تتجاوز السائد والمألوف في اللغة ذاتها، وهي تحت عنوان (الشاعر) ولا يحتاج العنوان إلى جهد كبير في إيضاح تأويلاته، فدلالة المفردة واضحة وتأويلها ضيق ولا يتجاوز حدود المفردة ذاتها وإحالاتها الممكنة. يبدأ النص بالسؤال الآتي: ماذا سأكتب والصمت عشش في دفتري/ وبأي الكلام سأبدأ هذا الهطول/ أنا التيه أسكن هذا البياض ولا أحرف مشتهاة / وتنبت ورداً وتمتد مثل انبساط الحقول في هذا المقطع هناك سؤال مستمر بشأن معاناة الشاعر مع القصيدة، وهذا الاستمرار ينتج أسئلة أخرى تحاول الوصول إلى إجابة توجز العلاقة الكلية بين الشاعر والموضوع، ولكي يوضح الشاعر معاناته في كتابة النص يطرح المسكوت والمعلن من العوامل المانعة لكتابة النص الشعري والمعلن هنا هو الإحباط والانكسار واللغة الباحثة عن التفرد والاختراق، أمّا المسكوت عنه فهو المكتشف الذي يأمله من قراءات النص المختلفة ويمثل التأويلات المتعددة لفضاءات القصيدة. ولكي ينجذب القارئ إلى النص وتأويلاته يبدأ الشاعر من عوامل الممانعة في كتابة القصيدة، وتبدأ من أدوات الشاعر التي تساعده على التدوين والتدفق في المشاعر ولا تنتهي إلاّ بالذات المبدعة، فهناك: دفتر صامت بالبياض والبياض تيه وحروف الكلمات عصية على التشكل، وهنا خالف النص فكرة التيه في العقل والحياة فغالباً ما يرتبط التيه بالظلمة والسواد، ولكن ارتباطه بالبياض فان هذا يعني وجود تيه آخر غير الذي ألفناه، فأي تيه هذا؟، إنه تيه اللغة التي يريدها الشاعر غامضة في وضوحها، وفي الوقت نفسه واضحة في غموضها، تلك الثنائية هي المقدمة لعلاقة المسكوت عنه بالمعلن، فما المسكوت عنه في النص؟، إن المسكوت عنه يتمثل في الجماليات التي يبحث عنها الشاعر في قبح الحياة: الحروف يريدها حمامة، يريدها وروداً وتمتد مثل الحقول... ولو قاربنا بين المعلن والمسكوت عنه في القصيدة نجد أن الصمت المعشش يقابل انبساط الحقول والتيه يقابل استقرار الحمام والبياض يقابل ألوان الحقول. في هذه الثنايات يقلب الشاعر الوظيفة المعتادة للأشياء فالبياض عنده يعني العجز عن كتابة القصيدة ويمثل موقفاً سلبياً في حياة الشاعر، بينما السواد الذي يمثل سطور الكتابة أو البوح فإنه معاكس للصمت والعجز، أما بشان الحمامة فيرى أن جمالها يكمن في استقرارها عندما تحط ولا تطير، هذه العلاقة المنقلبة على نمطية الأشياء تأطرت بجماليتين الأولى وزن المتقارب الهادئ والأخرى القافية، وبعد هذا التحليل للمعلن والمسكوت عنه لا بد من التساؤل عن نواة النص التي يحاول الشاعر الوصول إليها، إن النواة التي يريد النص الوصول إليها تكمن في الإحساس الشعري الذي يرى أن القصيدة هي غاية الجمال، وأن الطريق إلى الجمال ليس سهلاً ومعبداً بالورد فهناك صراع بين الرغبة والحلم مع الواقع والعالم المحيط، الرغبة والحلم يلخصهما الشاعر في: ولا أحرف مشتهاة تحط حماماً وتنبت ورداً وتمتد مثل انبساط الحقول، أما الواقع فيتمثل في الصمت عشش في دفتري أنا التيه. في المقطع الثاني من القصيدة يدرك الشاعر الجواب عن السؤال الذي يطرحه، ويمثل هذا الجواب مفتاح الحل، ولكن هذا الحل يعيد الشاعر إلى المتاهة نفسها التي تسببت بالسؤال يقول المقطع الثاني: لماذا إذا ما أردنا الكتابة كان عن الصمت، وفي هذا السؤال والجواب يدرك الشاعر أن الصمت هو المآل، ولكن هل الصمت في الكتابة يشبه الصمت قبل الكتابة ؟، إن الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى المقطع الأول من القصيدة والمقطع الذي يقول: والصمت عشش في دفتري، فالصمت هنا يعني العجز عن الإبداع والكتابة وبالتالي موت النص، في حين يتجه الصمت في المقطع الثاني إلى البوح والتدفق ومعاينة أسباب الصمت بوصفه موضوعاً للكتابة، ولذلك جاءت السطور الشعرية التي تلت السؤال والجواب في المقطع الثاني شارحة لهذا المعنى، يقول النص في هذه السطور ما يأتي: ما بين صمتين نغرق فيه أو نحوم حواليه، والغرق في الصمت هنا يعني موت الكتابة، وفي كل الأحوال فإن الصمت كما يقول النص: يسكننا مثل أسمائنا/ قد أطال المكوث / وددنا بأن نفتح الباب نشرعه ونقول تفضل / ودعنا نقول نقول، وهنا تبرز مفردة نقول بموضعين ودلالتين مختلفتين، كما أظهر هذا المقطع علاقة بين الصمت والوجود من خلال: يسكننا مثل أسمائنا، وعلى النحو الآتي: الأسماء هي العلامة التي تمييز الأشخاص وهذه العلامة تلازم الفرد منذ الولادة حتى الممات ولما كان الصمت يشبه الأسماء فهو الآخر يلازم الشاعر إلى النهاية، ولكن هل الأسماء تساوي الصمت في النص؟، الجواب كلا لأن العلاقة هنا علاقة مشابهة وليس علاقة مطابقة، وهذه العلاقة هي التي تتيح للشاعر الخروج من الصمت وكتابة القصيدة ولكن حتى خروج الشاعر من الصمت يتجه إلى الكتابة عن الصمت وهذه المسألة هي التي أتاحت للشاعر استعمال علاقة المشابهة الوحيدة في النص. إن المتأمل لهذه القصيدة يجد أنها احتوت على تقنيات مهمة أسهمت في إيصال رسالتها وانسيابها في التلقي وعززت من جمالياتها وأبرز تلك التقنيات ما يأتي: إن الصورة في النص لم تتجه إلى التشبيه المباشر ولم تستعمل أداة ربط بين المشبه والمشبه به، بل كانت صورة تقرر حالة الذات وتؤكد عمق تجربة الشاعر مع صمت الكتابة، كما في هذه الصورة أنا التيه أسكن هذا البياض. إن القصيدة على الرغم من أن موضوعها (الصمت) كانت تنفتح وتتسع باستمرار، كما في هذا المقطع ما بين صمتين نغرق فيه أو نحوم حواليه، وأكد الاسترسال في الصور وجود علاقات جوهرية بين بداية النص ونهايته، فالنص على الرغم من تدفقه كان واعياً لرسالة القصيدة والطريق الذي يوصل إلى نواة النص، وجاء استعمال القافية مؤثراً في الصوت والدلالة وجاءت كل القوافي محققة لغرضها على أفضل وجه وهذا ما ساعد على انسيابية القصيدة وتلقيها.

مشاركة :