ارتبطت التّاريخانيّة بشكل وثيق بالفيلسوف الألماني Herder Johann هردر 1744 - 1803 الذي رفض الأخذ بالأفكار التي نادت بها فلسفة عصر الأنوار "القرن 18" حول فكرة التقدم التي تطبع تاريخ البشرية، وأن المرحلة التي يصلها التاريخ ما هي إلا تراكم للخبرات السابقة عن مضمون التقدم، إلا أن الكلمة من إبداع كارل فرنر 1879 في معرض تعريفه لفلسفة Giambatista Voco فيكو 1668 - 1744 الذي أكد أن العقل البشري لا يدرك إلا ما يصنع، أي المنشآت التي تكون العالم التاريخي. التّاريخانيّة (Historicisme) أي التاريخ كمبدأ وحيد لتفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان، وهدفها كشف قوانين التطور والتغيّر الاجتماعي، وفهم التبدلات الحضارية الكبرى في تاريخ الإنسان، وهي في حقيقتها اختراق فلسفي لعلم التاريخ ولمجاله العام، الذي كان حكراً على المؤرخين أنفسهم في وصف الماضي، والاكتفاء بسرد أحداثه بتسلسلها الزمني المنتظم، من أقصى نقطة في الماضي السحيق، إلى الزمن المعاش، كما فعل المؤرخون المسلمون، وهذا السرد يكون إجمالاً بحياد المؤلف، ويُعرض من دون تمحيص أو نظر فلسفي. ويرى عبد الله العروي (مفكر وروائي وكاتب مغربي) "أن التّاريخانيّة هي فلسفة كل مؤرخ يعتقد أن التاريخ وحده العامل المؤثر في أحوال البشر، بمعنى أنه وحده سبب وغاية الحوادث"، فالتاريخاني يركز جهوده على تحديد العلة النهائية؛ أي ما يتجاوز الخاص والفردي في التطور ومسيرة الحضارة الإنسانية، لاستخلاص ما هو عام وكلي مما هو متكرر في الأحداث والوقائع التي لا تعد ولا تحصى، للوصول إلى ماهية ثابتة أو مبدأ مفسّر لحركة التاريخ. وعلى هذه الأرضية تضع التّاريخانيّة الإنسان في قلب العملية التاريخية؛ إذ تستحضر الماضي بشكل مستمر لتستمد منه اللحظات المضيئة في تاريخ كل جماعة لتحقق التغيير بواسطتها، فالحركة الإنسية في عصر النهضة قد استحضرت التراث القديم، والإصلاح البروتستانتي استمد أصول فكره من المسيحية الأولى. وحسب منهج التّاريخانيّة فإننا لا نستطيع الحكم على الأفكار أو الحوادث أو المفاهيم والمعتقدات والأديان ونظم الجماعات، إلا بنسبتها للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه؛ إذ النظر إليها من ناحيتها الذاتية يوقعنا في التباسات اختزالية مقيتة، بينما نسبتها للوسط التاريخي ستضعها في إطار المعالجة والرؤية الموضوعية لخصائصها وتركيبها ومظهرها؛ لذا فلا مناص من ضرورة النسبة الحتمية للتاريخ؛ إذ سر كل شيء وروحه هو التاريخ، مصداقاً لقول كارل ماركس: "لا علم إلا التاريخ". إن الحتمية التي تعني أن الشروط نفسها تؤدي إلى النتائج نفسها، يسهل ملاحظتها والتأكد من فاعليتها عندما نكون إزاء ظواهر طبيعية أو أشياء مادية، أما عندما يتعلق الأمر بالظواهر والحالات النفسية والاجتماعية، فإن تطبيق مفهوم الحتمية كثيراً ما يتعذر، ذلك لأن وقوع سبب معين لا يؤدي دائماً إلى حدوث نفس النتيجة في مجال النفس والمجتمع. لذا فقد وجهت عدة انتقادات للتّاريخانيّة، كان أبرزها في الفكر المعاصر Karl Popper كارل بوبر 1902 - 1994 الذي قدم أعمق مساهمة نقدية لأسسها المعرفية، بدأها بالسؤال: هل هناك خُطة للتاريخ، وإذا كانت هناك خُطة فما هي؟ وانتهى فيها إلى أن التّاريخانيّة خطأ من أقصاها إلى أقصاها، فالتاريخاني يرى أن التاريخ مثل مجرى الماء، مثل النهر الجاري، ويعتقد أنه يستطيع أن يتوقع أين يمر الماء، التاريخاني يعتقد أنه أكثر ذكاء، إنه يرى الماء ويتصوّر أن بإمكانه أن يتكهن بالمستقبل، هذا الموقف خاطئ كلية، فبإمكاننا أن ندرس التاريخ كما نشاء، لكن هذه الفكرة الخاصة بالنهر ليست أكثر من مجاز ولا علاقة لها بالواقع وبالحقيقة، يمكن أن ندرس ما مضى، لكن ما مضى قد انتهى، وانطلاقاً من هذا فإننا لسنا في المستوى الذي يسمح لنا بالتنبؤ بأي شيء كان، نتابع الاتجاه وعلينا فقط وببساطة أن نتحرّك وأن نحاول جعل الأشياء أفضل، فاللحظة الحاضرة هي اللحظة التي انتهى فيها التاريخ، فليس بمقدورنا أن ننظر إلى المستقبل ونحن نعتقد أنه بإمكاننا أن نتكهن به بفضل المجرى أو الاتجاه. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :