كأن الشعر هو أيضا قرر معاقبتنا، طوى صفحة مشرقة من تاريخه حين أفل نجم الشاعر محمد علي شمس الدين "أبو علي"، ابن قرية بيت ياحون اللبنانية الجنوبية، حيث أمضى 80 حولا، متنقلا بين جمالية الحرف والنغم، يبحث في خبايا الشعر عما يعبر عنه، ووطنه وأوجاعه، عن طفولته الحاضرة في جميع لقاءاته، وقريته والطبيعة الجبلية التي أسهمت في تفتح ملامح الشعر في شخصيته منذ نعومة أظفاره، فعشق الوزن وزاوج الكلمة، فجاءت قصائده نابعة من القلب ولا تحاكي إلا القلب. كان مرجعا أدبيا كبيرا، عاصر العظماء، وعاش في الظل لم تسرقه الشهرة، لأن تركيزه كان على نتاجه الأدبي والشعري، لا على الصورة والأضواء. هو واحد من طليعة "شعراء الجنوب" اللبناني، الذين نشرت قصائدهم في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وعبرت بصدق عن هموم ومشكلات القرى الجنوبية الرازحة تحت الاحتلال في تلك الفترة. تغنت قصائده بالوطن والحبيبة والشعر وموضوعات مختلفة، وعرج مطولا إلى عالم الطفولة تاركا خلفه مجموعة من الأعمال التي طبعت في ذاكرة الصغار قصة وأغنية، وكانت رفيقة دربهم في الحياة. بيت ياحون .. البداية والنهاية ولد في قرية بيت ياحون في 1942، تلك القرية الجنوبية الريفية، التي رافقته في مجمل لقاءاته الصحافية، منها انطلق وإليها عاد، تاريخا يعبق بالأدب والشعر والفكر الحر والتجربة الفريدة. ورغم أنه قد نشأ قرية أخرى، بعدما انتقل إليها وأسرته، إلا أنه لا يمر لقاء أو مناسبة إلا ويفتح فيها الشاعر محمد شمس الدين بابا على طفولته، ونشأته في طبيعة جبلية وبيئة رعوية، حيث كان للحب مكان وللراحة أيضا، فقد نشأ على تسبيحات صوت جده القوي وهو يؤدي الأذان والموشحات الدينية، وترعرع على شعر المتنبي، والمعري، والشريف الرضي، ومؤلفات الجاحظ، والتوحيدي. مراحل من حياته درس "أبو علي"، الاسم الأقرب إلى قلبه وفي الأغلب ما كان يطلب أن ينادى هكذا، في بيروت وحاز إجازة الحقوق من "الجامعة اللبنانية" في 1963، وعمل مديرا للتفتيش والمراقبة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي اللبناني، ثم تحول بعد ذلك إلى دراسة التاريخ حتى حصل على درجة الدكتوراه. تفتحت موهبته الشعرية باكرا، ويعد من طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي منذ 1973 حتى الآن، وقد شارك في عديد من المهرجانات الشعرية في البلاد العربية وعكف على كتابة مقالات نقدية وأدبية عن الشعر والأدب والفكر في المجلات والصحف اللبنانية والعربية، وهو عضو الهيئة الإدارية في اتحاد الكتاب اللبنانيين. ورغم أنه يصنف ضمن خانة الشعراء الحداثيين إلا أن نتاجه الشعري لا ينحصر في مجال واحد، ومعظم أشعاره تتفاعل مع رموز التاريخ العربي والإسلامي. "قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا" الصادرة في 1975 كانت باكورة أعماله الأدبية، هيمنت عليها مناخات الغموض والميتافيزيقيا والغنائية، ما جعله مختلفا عمن حوله حتى قبل أن يشق طريقه كشاعر فذ. حاز في 2011 جائزة العويس الشعرية، وترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة منها الإسبانية والفرنسية والإنجليزية. كما كتب عن قصائده كثير من النقاد العرب والغربيين، ومن بينهم المستشرق الإسباني بدرو مونتابيس حيث قال، "يبدو لي أن محمد علي شمس الدين هو الاسم الأكثر أهمية، والأكثر وعدا في آخر ما كتب من الشعر اللبناني الحديث، في هذا الشاعر شيء من المجازفة مكثف وصعب، ولا سيما أنه عرضة لكل الإشراك. شيء ما يبعث على المجرد المطلق، المتحد الجوهر، اللاصق بالشعر في أثر شمس الدين، وقلة هم الشعراء الذين ينتصرون على مغامرة التخيل، ويتجاوزون إطار ما هو عام وعادي، وهؤلاء يعرفون أن مغامرتهم مجازفة كبرى، لكنهم يتقدمون في طريقها". مؤلفاته نشرت أعماله في لبنان والبلاد العربية، وعرفت نجاحا لافتا، وصدر له عدد من الدواوين منها، قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا، غيم لأحلام الملك المخلوع، أناديك يا ملكي وحبيبي، الشوكة البنفسجية، طيور إلى الشمس المرة، أما آن للرقص أن ينتهي، أميرال الطيور يحرث في آبار منازل النرد، ممالك عالية، رياح حجرية، كتاب الطواف، حلقات العزلة، اليأس من الوردة، غرباء في مكانهم، الغيوم التي في الضواحي، شيرازيات الأعمال الكاملة "جزآن"، النازلون على الريح، إضافة إلى كتب أخرى الإصلاح الهادئ "بحث تاريخي"، غنوا غنوا "قصص للأطفال"، قصة ملونة "قصص للأطفال". وكان آخرها في 2018 "كرسي على الزبد". وتميزت قصائده بالإيقاعات العالية واللغة القوية الجزلة والصور المتراكبة، ومعه تطورت القصيدة عندما ترك فيها مساحة تأملية صوفية، وانتقل من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، تحتوي بعض قصائده على عدة بحور شعرية، مزج بين النثر والموزون، لكنه حافظ على عامل الإيقاع كعنصر أساسي، تميز بطرح أسئلة وجودية، عن الحياة والموت، فكانت قصائده أشبه برحلة تأمل تأخذك بالكمة والفكرة إلى عالمها الخاص والمختلف. قصائد للأطفال كتب شمس الدين شعرا للأطفال في مجموعته "غنوا غنوا" في 1983، وكذلك القصة في "كنز في الصحراء" التي صدرت في العام نفسه، ليواصل هذا الشكل الكتابي حيث تجاوزت قصصه المكتوبة للطفل 12 قصة، ولحنت القصائد التي كتبها للصغار أيضا. كيف نعتته ابنته؟ كانت الكلمات التي كتبتها رباب، ابنة الشاعر محمد علي شمس الدين، كفيلة بإظهار مدى حزن الابنة على رحيل والدها، وما القيمة الأدبية والثقافية التي كان يمثلها لها، ولأجيال مختلفة، تربت على قصائده وكتبه، وعبر صفحتها الخاصة على فيسبوك كتبت في نعيه: “إنا لله وإنا إليه راجعون لم تعلمني كيف تكفن القصيدة وقد غسلناها بدمع المحاجر ولم تعلمني كيف يدفن الشعر ولم تخبرني أن للشعر مقابر حفرت كل تراب بيروت يا أبي فما وسعتك بيروت يا أيها الشاعر فأين أواري جسدك المقدس وكيف ترثيك في الموت المنابر تجدر الإشارة إلى أن الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين عاش ثمانية عقود، عانى المرض في أعوامه العشرة الأخيرة، ورحل بصمت وهدوء، وقد خيم الحزن على الوسط الشعري والأدبي في عموم بلاد الوطن العربي، وقد نشر عديد من الشخصيات الأدبية المهمة منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عبروا فيها عن حزنهم الشديد لهذا المصاب. وعد اتحاد الكتاب اللبنانيين وفاة شمس الدين "خسارة وطنية وفكرية فادحة"، لافتا إلى أنه بوفاته "ترك أثلاما في بحور الإبداع والفن والثقافة".
مشاركة :