حينما ذهب بيب إلى لاماسيا لم يأخذ معه ملصق ميشيل بلاتيني الذي كان يزين به غرفته، فسواء كان واعيا أم لا فإن الكرة بدأت تتخذ بعدا أكبر في حياته.. لقد أدرك هذا منذ اللحظة الأولى حينما ذهب مع عائلته لزيارة منشآت الأكاديمية للمرة الأولى. حينها لم يكن الأمر سوى منزل ريفي كبير يقيم به اللاعبون القادمون من خارج عاصمة اقليم كتالونيا والذين تركوا عائلتهم أيضا. . اختار بيب فراشا علويا بجانب احدى النوافذ التي تطل على كامب نو وقال لوالدته: انظري، في كل يوم سأستيقظ سأرى الملعب. اعتاد جوارديولا الحديث كل ليلة هاتفيا مع عائلته من أحد الهواتف الموجودة في الطابق السفلي من مقر إقامته على أن يعود كل عطلة أسبوع للقرية لقضاء بعض الوقت معهم حيث كانت الرحلة لا تستغرق أكثر من ساعة. يؤكد بيب أن تلك الفترة المليئة بالمستجدات والاكتشافات وبعض الغيابات ساعدته كثيرا في صقل كينونته ونضجه وتطويره بشكل سريع. لقد كان ابتعاده عن العالم الذي يعرفه سببا في الصلابة التي اكتسبها بالدموع حيث يتذكر والده قائلا: كان المسكين يبكي كلما اتصل بنا. يوم في ماسيا كان اليوم يبدأ في لاماسيا بتناول الافطار المكون من الزبادي والحبوب والمربي واللبن والخبز المحمص قبل بدء التدريبات التي كان جوارديولا والفتية يعودون بعدها لمقر إقامتهم الذي كان مزودا بجهاز تلفاز وجهاز أخر، هو مؤقت يفصل الكهرباء في تمام الساعة الـ11 مساء. بخلاف حصص التدريب اليومية، هنالك شيء أخر شتت انتباه هؤلاء الشباب أكثر من التلفاز بل وربما يسرق منهم ساعات نوم كثيرة، فعلى الرغم من حظر التجوال المفروض عليهم بعد الـ11، إلا أن عدد كبير منهم كان يسهر لأوقات متأخرة أمام نافذة مطلة على الشوارع المجاورة لمراقبة أنشطة بائعات الهوى حول النادي. هذه التصرفات الصبيانية لم تكن الشيء الوحيد الذي يحدث ليلا، فالكثير من الفتية ومنهم جوارديولا كانوا يبكون لبعدهم عن العائلة، ولكن الأخير أدرك بمرور الوقت أن الدموع لن تفيد بشيء، خاصة وأنه في النهاية على الرغم من كل الصعوبات يعيش حلم طفولته. لذا قرر في النهاية ضرورة التركيز بصورة كاملة في العمل والتدريبات وتحسين بنيته الجسدية التي كانت تقلق مدربيه. لم يكن بيب يتحدث بخصوص شيء سوى كرة القدم، موهبته الشديدة في الملاحظة سمحت له بالتعلم بكل ما يحيط به: من الفرق الأخرى والمدربين واللاعبين الأكبر سنا. ألعاب الكبار ففي إحدى المرات طلب من عدد من زملاءه تكرار لعبة من ركلة حرة كان شاهد الفريق الثاني ينفذها لينتهي الأمر بالتسجيل ليسأل المدرب عن صاحب الفكرة ليرد جوارديولا صاحب الـ15 عاما حينها بأنه من اقترح الأمر بعدما شاهد الكبار يقومون بذلك. هذه هي روح لاماسيا مدرسة لكرة القدم قائمة على الحوار بين المدربين واللاعبين، الأمر لا يتعلق بحوار من طرف واحد وهذا أمر يقتنع به بيب الذي يقول الشباب يرغبون فقط في لعب كرة القدم والحياة من أجل كرة القدم، ولاماسيا تسمح بهذا. هذا أمر حقيقي ففي أي ساعة كان يمكن أخذ الكرة واللعب لبعض الوقت أو الذهاب لرؤية كيف تتدرب باقي الفرق في الفئات العمرية المختلفة، هذا بخلاف بعض المزايا الأخرى مثل مشاهدة المبارايات من ملعب كانب نو سواء أثناء توزيع منشورات تخص النادي على المشجعين أو في جمع الكرات. يظهر جوارديولا في صورة تعود لـ1986 أثناء احتفال برشلونة بتأهله لنهائي كأس الأندية الأوروبية البطلة بعد الفوز على جوتيبورج السويدي في ملعب كامب نو وملامح الفرح والسعادة ترتسم على وجهه.. إنها من ضمن الأشياء التي قدم تبدو بسيطة وتقدمها لا ماسيا، ولكنها في الحقيقة تجارب لا تنسى. تعلم جوارديولا أيضا أثناء عمله كجامع للكرات دروسا أخرى، فذلك الفتى الذي كان يزين غرفته في منزل العائلة بصورة بلاتيني كان على موعد رؤية اللاعب الذي طالما أحبه لأول مرة. توقيع بلاتيني كان بيب يؤمن بأن هذه اللحظة المناسبة للحصول على أي شيء منه ولو حتى مجرد توقيع.. نعم هذا كان أمرا كافيا للغاية، لذا وضع قلما وورقة في جيبه حيث كانت الخطة انتظار خروج نجم يوفنتوس أثناء تمارين الإحماء والحصول على إمضاءه ولكن بلاتيني لم يخرج لأنه لم يكن يعتاد دائما على الإحماء. كان أهم درس تعلمه جوارديولا في تلك اللحظة أن كل اللاعبين ليسوا سواء وهو الأمر الذي سيخدمه كثيرا في التعامل مع الأرجنتيني ليونيل ميسي مستقبلا. لم تؤثر واقعة بلاتيني في جوارديولا سلبا ولكنها علمته هذا الدرس القيم.. لم يحزن لفترة طويلة لأنه كان هنالك بالقرب منه مثل أعلى يمكن النظر إليه: جييرمو أمور الذي يكبره بأربع سنوات ويقيم أيضا في لاماسيا وكان على وشك الانضمام للفريق الأول تحت قيادة الهولندي يوان كرويف. يقول جوارديولا في سيرته الذاتية (أهلي) التي نشرها منذ أكثر من عقد حول مسيرته كلاعب كنت أشاهده (أمور) في كل المبارايات والتدريبات، كنت أركز في كل تصرفاته التي كانت تبدو دائما كما لو أن حياته تعتمد عليها حرفيا، أحببت طريقة معاملته مع باقي اللاعبين وكيف يستمع اليهم واحترامه للجميع وتلقيه المعاملة بالمثل. كان أمور متواضعا في معاملته مع جوارديولا فبعد عودته على سبيل المثال من أي مباراة خارج الديار مع الفريق الثاني لبرسا، الذي كان يضم حينها تيتو فيلانوفا، لم يكن يشعر باستياء من الرد على عشرات الأسئلة والاستفسارات التي كان يوجهها له بيب الصغير بخصوص كل شيء. اعتبر بيب أمور بمثابة أخ أكبر له لأنه جعله يتفهم أن النادي لم يكن يقتصر فقط على هياكله الأسمنتية وملاعب ومنشآت التدريب، بل يجب أن يكون شيئا محفورا بداخله.. إنه شيء أشبه بالحمض النووي الذي يعرف هوية لاعبي الفريق ولا تخلو منه كل خلية داخل أجسادهم. لم يكن غريبا بالتالي أن يكون تعيين جييرمو أمور مديرا رياضيا لقطاع الناشئين من أول القرارات التي سعى جوارديولا لتحقيقها حينما تولى تدريب الفريق الأول. كيف كان جوارديولا في تلك الفترة جسديا؟ بعيدا كل البعد عن جييرمو أمور حيث كان نحيفا ويفتقر للبنية العضلية ولكنه عمل على تعويض هذا النقص عن طريق قدرته في خلق المساحات.. إنها تلك الموهبة التي كانت تمكنه على خداع ثلاثة لاعبين بتمريرة واحدة وضبط سرعة وايقاع اللعب كيفما يرغب، لقد كان مختلفا: لم يكن ذلك المراهق الذي يرغب في المراوغة بل اللاعب الذي يحب التمرير. كانت مهارة بيب في التمرير وضبط الإيقاع وصناعة اللعب بمثابة بطاقة الضمان التي جعلت اسمه يتردد في الأروقة العليا للنادي، ولكن كان ينقصه شيء مهم وهو بالتأكيد تلقيه استدعاء للفريق الأول من كرويف. -- يستعرض FilGoal.com كتابا جديدا.. طريقة أخرى للفوز الذي يحكي حياة المدرب الإسباني بيب جوارديولا منذ طفولته وحتى رحيله عن برشلونة. هو واحد من انجح الكتب الرياضية في السوق الإسباني وترجم لعدة لغات، ويقدم الكثير من القصص والحكايات عن مسيرة جوارديولا ولاعب والصعوبات التي واجهها بجانب شرح الكثير من الجوانب الفنية والتكتيكية في مسيرته التي قادته ليصبح واحد من أبرز المدربين في الوقت الحالي، هذا بجانب حوارات مع المدرب نفسه وعدد من لاعبيه ومنافسيه. وألف الكتاب الصحفي الإسباني المخضرم جييم بالاجيه، صاحب الخبرة الكبيرة في المجال الرياضي بالعمل مع كل من (سكاي سبورتس) و(آس) و(تيليجراف) و(بليتشر ريبورت).
مشاركة :