من المآسي والمصائب التي حلت بنا تضييق المفهوم الشامل للعمل الصالح وقصره على العبادات المحض من الحج والعمرة والصلاة والصيام، وبهذا الفهم القاصر للعمل الصالح فصل المسلمون دينهم عن سلوكهم وحياتهم اليومية وانشغلوا بتلك الجوانب المحدودة للعمل الصالح، وهذا من الأسباب الرئيسة لتخلفنا. وبالبحث في تراثنا العلمي والعملي، قال الكفوي في الكليات: العمل: المهنة والفعل، والعمل (يشمل) أفعال القلوب والجوارح، ولا يقال إلا ما كان عن فكر وروية، ولهذا قرن (العمل) بالعلم حتى قال بعض الأدباء قلب لفظ العمل من لفظ العلم تنبيها على أنه من مقتضاه، ولا يكون العمل صالحا (ومقبولا عند الله تعالى) إلا بتوافر شرطين: الإخلاص لله، والصواب في الأداء، وبالطبع يدخل في ذلك الكسب الحلال (موسوعة نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم). قال الماوردي كما ورد في أدب الدنيا والدين - أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة. قال الله تعالى: (وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ أُوْلئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خالدون) (البقرة 82). وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف 7). وقال تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف 97). وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) ليَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) (يس 34-35). الآيات السابقات تؤكد أهمية العمل الصالح بمفهومه الشامل لتعمير الكون بنواميس الله في الخلق وبما قدر في الأرض من أقوات وقوانين تصلح لتعمير الأرض بالزراعة والصناعة والتجارة والعمران. أما نحن فقد أهملنا المفهوم الشامل للعبادة واهتممنا ببناء المساجد وزخرفتها وأهملنا المشاركة في بناء المدارس والمستشفيات والحدائق العامة وطباعة كتب العلم النافع ونشرها، وانتشرت مطبوعات التسبيح والرقى مع غياب مطبوعات العمل وإتقانه والصناعة وأهميتها لرقي المسلمين وتقدمهم، والزراعة وقيمتها الشرعية، والبحث العلمي وأهميته في استغلال نعم الله وقوانينها في حل المشكلات على أسس علمية بعيدة عن العشوائية، وعندما يموت المسلم يقوم ورثته وأحباؤه بطبع كتاب الحصن الحصين ولا يطبعون كتابا في التربية والتعليم وإتقان العمل وعلو الهمة والالتزام بقواعد السير والسياقة في الطرق، والاهتمام بالبيئة وأهمية التشجير والحفاظ على الحياة الفطرية، والاقتصاد في الماء والكهرباء والغذاء، وهذا من نتائج الفهم الخاطئ والمنقوص للعمل الصالح في الإسلام كما قال تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُو الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» (الملك 2). الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بدأ ببناء المسجد بأدواره المتعددة وبنى السوق للتجارة وتدعيم الاقتصاد. ومن يدرس حياة المسلمين الأوائل يجدهم يشاركون في بناء المساجد والأسواق والمتنزهات والمدارس والجامعات وسكن الطلاب ورعاية المسافرين في الطريق والاهتمام بدوابهم وأمتعتهم وأوقفوا الأوقاف على المدارس والمصحات والاستراحات وطباعة الكتب العلمية والتربوية، وكذلك أوقفوا الأوقاف على رعاية الحيوان والرفق به كوقف الهررة والقطط، ووقف الطير ووقف السلطانية للأواني التي تكسر من الخدم في بيوت مخدوميهم، وعينوا من ينفس عن المرضى ليلا ورعايتهم في بيوتهم نهارا، وبهذا الفهم الصحيح للعمل الصالح شيد المسلمون حضارة علمية إيمانية اجتماعية إنسانية فريدة في التاريخ البشري. فالعمل الصالح يشمل كل عمل نافع يقوم به الإنسان ومكلف به في الحياة الدنيا وإتقانه. جعل الإسلام تنظيف الطرقات من العمل الصالح، ومن زرع زرعا فأكلت منه الطير والبهائم والإنسان فله بذلك صدقة. وإتقان العمل وتطويره من العمل الصالح. الاهتمام بالمراجعين من العمل الصالح. والالتزام بقواعد المرور وتنظيم المركبات من العمل الصالح. والحفاظ على البيئة من العمل الصالح. الاهتمام بالبحث العلمي من العمل الصالح. الحفاظ على الكهرباء والماء والأجهزة المنزلية من العمل الصالح. قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وأن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ أفتّان انت (قالها ثلاثا)، اقرأ الشمس وضحاها، وسبح بسم ربك الأعلى ونحوهما) رواه البخاري ومسلم. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «تعلموا فمن علم فليعمل». ومن فوائد العمل: يورث العفة ويحفظ الكرامة. يبني المجتمع الصالح والفرد الصالح والأمة القوية العزيزة المهابة. الفوز بالجنة والنجاة من النار. صون ماء وجه صاحبه من السؤال (نضرة النعيم مرجع سابق) (ص3051). فمتى تهتم مناهجنا الدراسية بتصحيح المفاهيم الخاطئة ونشر المفاهيم الصحيحة عن العمل الصالح في حياتنا اليومية؟ ومتى يشارك المجتمع مع الدولة في بناء المدارس والمصحات والحدائق العامة وصيانة البيئة وتنظيف الشوارع وتشجير الطرقات تقربا إلى الله تعالى، واعتبار ذلك من العمل الصالح، والصدقة الجارية والعبادة؟!! إن الفهم المنقوص للعمل الصالح سبب رئيس لتخلفنا وهواننا على الناس. (انظر كتابنا يا بني اركب معنا ص 151). والحمد لله رب العالمين.
مشاركة :