تتميز الفنانة التشكيلية السورية رانيا كرباج بأسلوبها الخاص المتفرد بشاعرية وأحاسيس خصبة فتأتي لوحاتها نتاج خيال شاعر رقيق بلمسات وريشة فنان مبدع.. مع مزيج من الواقعية الفنية والشطحات السوريالية والتجريد المعبّر الجميل القريب من ثقافة المتلقي، حيث أشخاص ووجوه لوحاتها مفعمة بالأحاسيس وغنية بالرموز البسيطة أحياناً العميقة في أحايين أخرى. وتجربة كرباج الفنية تعود لأكثر من عشرين عاماً خلت حيث انطلقت من مدينتها الأم (حلب) لتقدمها في بيروت ودمشق وعواصم ومدن عربية أخرى من خلال معارض عديدة فردية وجماعية ومقتنيات لها في هذه المدن وكان آخر معرض لها في غاليري فاتح المدرس بدمشق. عن بداياتها والمراحل التي مرّت بها والمدارس التي عملت عليها تقول رانيا: البداية كانت من الحب والشغف الذي دفعني للاكتشاف وكان هناك مركز لتدريس الفنون التشكيلية في مدينة حلب فانتسبت إليه وكنت مازلت طالبة بالجامعة في كلية الهندسة وكانت الخطوة الأولى التي لم أتوقف عندها بل استمريت بالاطلاع على المدارس الفنية وتعلّم التقنيات ومن ثم انتقلت للبحث عن خصوصيتي ولوحتي الفنية الخاصة بسرعة ومازالت المسيرة مستمرة حتى اليوم... في البداية تعلمت الرسم بشكله الأكاديمي والاطلاع على تقنياته ولكن لم أحاول أن ألتزم بمدرسة محددة,فمنذ البداية اكتشفت أنّلدي تكوينات خاصة بي أريد إظهارها وإذا كنت أريد تنفيذ لوحة فمن أجل هذه التكوينات وهي فكرة خاصة تتضمن كيف يمكن للكاتب أن يكتب بأبجدية ولغة, وهذه التكوينات هي اللغة التي أشتغل عليها لأجعلها تتألق وتظهر بصورة جميلة. ولذلك في بداياتي كانت التكوينات أكثر ميلاً للتعبيرية, بينما اليوم وصلت لتكوينات تنحاز للواقعية أكثر, في البداية كان هناك حرية أكثر وصخب بالألوان أكثر وفيها نوعاً من العفوية، ولكن مع مرور الوقت والزمن وبعد مروري بتجارب كثيرة شعرت أنه عليّ أن ادمج الواقعية أكثر بهذه التكوينات والخطوط والفكر لدي الذي يتجسد باسكتشات, حيث أبدأ باسكتش وخطوط أقوم بتطويرها مع محاولتي في تقديم لوحة خاصة بي. وأسأل رانيا عن رأيها ببعض التشكيليين قدموا الوجوه بحالة تعبيرية تتضمن رمزية معقدة ومغلقة يصعب على المتلقي الوصول لفهم مكنوناتها، كيف قدمتِ أنت هذه الوجوه والأشكال البشرية فتجيب قائلة:إنّ أي عمل فني ينفّذ بإحساس وقناعة وبمحبة يصل للمتلقي والجمهور، بالنسبة لي وجوهي تختلف عن الوجوه التي يطرحها تشكيليون آخرون لأنني اخترت أن أبقى بالحالة الجميلة المشرقة، فأنا اخترت الوجه المشرق للحياة مع وجود الألم فعندما يقرأ المشاهد أسرار الشخصيات عندي سيلاحظ وجود الألم ولكن غير موجود كتشويه، هكذا كان خياري من البداية وهو أن هذا ماسأركز عليه، وفي تجاربي القديمة كان هناك تجسيد لألمٍ ومعاناة أكثر، وأن أقدم هذا الانسان اليائس المضطرب، هذه حالة نشاهدها في الكثير المعارض التي تقدم الوجوه الانسانية بطريقة تعبيرية مع التشويه والألم والانسان المنفصل عن الواقع والمتألم بطريقة محزنة كثيراً،إنّ كل تشكيلي ينقل تجربته، وبالنسبة لي عشتها بمرحلة ما وعرضتها بمدينتي حلب ولكن أعتبر أن اللوحة تعكس نمو الفنان الروحي والفكري والتقني وأنا نموي الروحي أوصلني إلى هنا،في أن أعيش على الرغم من الألم بالجانب المشرق من الحياة هذه تجربتي ولايمكنني أن أكذب وأرسم الوجوه المشوهة الموجودة كموضة بالفن التشكيلي فأنا اليوم أعكس حقيقتي كما هي. إن لدى رانيا طقس خاص في ولادة اللوحة الفنية لديها:باعتباري أكتب الشعر فدائما لدي أدواتي كقلم الرصاص والورقة ولدي حالة التأمل التي أخرج بها من الصراعات اليومية، تأخذني للكتابة والشعر وتأخذني لهذه الاسكتشات،فبقلم الرصاص تخرج بلحظة غير مقصودة فهم يحفزونني لأن أحولهم لعمل فني وبعد ذلك يكون هناك العمل الأكثر في التقنيات، وكنت أحوّل هذا الاسكتش لشخوص متوازنة نوعا ما من الناحية التشكيلية واللونية،وبالتأكيد الفنان التشكيلي لديه عين كعين الكاميرا فأي شيء يحركها ويحفزها من مشهد إنسان أو طفل أو مشهد طبيعي أو وردة يمكن أن يحوله لعمل فني. ولرانيا رأي في موضوع توع المدارس والأساليب الفنية قائلة: ليس لدي تفضيل لأحدها على الآخر، فهي جميعاً تجارب وعملية تطويرية، فالفنون التشكيلية في المجتمعات الغربية تطورت حيث بدأت بالواقعية ومن ثم الكلاسيكية وبعد ذلك جاءت مرحلة الحداثة كاستجابة لمتغيرات وأحداث كبيرة كالحروب والثورة الصناعية وكحالة تماهي ثقافية مع المجتمعات الغربية، وبالنسبة لي فأنا أحب هذه المدارس وأتفاعل معها ولكن أفهم أيضاً أنها نتاج تجربة وأؤمن بأن يكون لدينا نتاج تجربتنا مع الاستفادة من الثقافة العالمية، وأن ننفذ أشياء تشبهنا وتواكب تلك المدارس،فلانبقى نكرر ونجتر ما قاله غيرنا وما اكتشفه من أساليب فنية وغيرها. وتؤكد رانيا أن البورتريه العادي التقليدي غير موجود في أعمالها: أنا لاأرسم البورتريه العادي،بل لدي تحوير بشخوصي قد لايكون تحويراً كبيراً ولكن سيجد المشاهد مثلاً أن هناك استطالة في الرقبة وانفتاح بالعيون واستطالة بالأصابيع، وهنا الواقعية ستأخذ المشاهد إلى أبعد من الواقع حيث أوظف حركة الريشة والألوان لتدرجات الوجه وبشكل مبالغ فيها أحياناً فلا أعتبر نفسي أنتمي للمدرسة الواقعية التي ترسم البورتريه، أرسم البورتريه المعبر وبطريقة حديثة ليست كلاسيكية وتشبهني، وتشبه الفلك الفكري والروحي الذي أعيش به... هناك أعمالاً آخذها من الواقع، وكفن معاصر وحديث فإن الواقع يمر عبر المعمل النفسي والفكري والروحي ويخرج بطريقة مختلفة تشبه الفنان، هذه المقولة تلخص النظرة الحديثة لفن البورتريه. لدي خصوصيتي ـ توضح رانيا ـ التي تحدد الاختلاف بيني وبين غيري من التشكيليين، فهناك الطريقة التي أفكّر بها وبالتالي الخصوصية التي تترك بصمتها على أعمالي الفنية، وأعتقد أن خصوصيتي واضحة للمشاهد والمتابع فبداياتي لم تكن بتقليد أحد ولم أبدأ بالاعتماد على مدرسة فنية ما، بل بدأت بهذه الوجوه والتكوينات التي أنفذها بلحظة تأمل، وهذا التكوين خاص بي وكذلك الوجوه والألوان خاصة بي وهناك مثلا الورق الذهبي في لوحاتي الذي يعبر عن حالة إشراق داخلي وهو بالمحصلة يخصني ويعبر عني، فمجموع هذه العناصر هي خصوصيتي. وترى رانيا أنّ اللون والابهار البصري هو لغة في التشكيل وهو جزء من المعادلة وجزء مهم لإيصال الحالة التي أريدها أن تصل للجمهور، ولذلك الألوان الحارة والباردة تكمل بعضها ووجودها مهم باللوحة وبالنسبة لي أي لون هو اكتشاف وهو جزء من الحالة النفسية والفكرية والتقنية للوحة، لايوجد لون يلزمني بالعكس أنا مع جميع الألوان ولكن تتميز ألواني بالإشراق والتنوع...وبالتأكيد اللون هنا يساعد بحالة الإبهار وهو يبهرني أنا شخصياً في البداية ومن ثم يصل للمتلقي، واللون مكون أساسي من الدهشة والاحساس التي أقدمها للجمهور، هنالك لوحة لفتت انتباه البعض وتتضمن شقيقتين بينهما محبة، فأجبتهم أن الألوان ساعدت في إيصال فكرة الشقيقتين المتحابتين للناس حيث الألوان متناغمة تشبه التناغم بين الشقيقتين.. ولكن يطغى اللون الأصفر لديك؟.. تبتسم رانيا موضحة:اللون الاصفر عندي والذي استخدمه من خلال الورق الذهبي، يخدم الحالة الفكرية والشعورية التي أعيشها، وهي التوهج الاضافي بالنفس البشرية لإيصال شخوصي الى الحالة المستقرة المتصالحة مع نفسها والمتصالحة مع ما حولها، فهناك طاقة السلام التي تصل لهذا التوهج الاضافي، وأنا ارى أنه يجب أن يكون باللون الذهبي، حيث الاضاءة المتوهجة داخل الانسان فأشكّلها بالخارج لتستطيع إعطاء الابهار والاشراق الذي أشعر به وأعيشه. ولرانيا رأيها في موضوع الأسلوب التجريدي الطاغي حالياً في الساحة التشكيلية العالمية التجريد فهو حالة بالفن التشكيلي ـ توضح رانيا: في الغرب هناك تراكم كبير في الواقعية ووصلت تجاربهم لمرحلة الكمال بحيث لم يعد هناك أكثر من ذلك، كذلك هناك تجربة الثورة الصناعية وتجربة المجتمع الغربي ولّدت مدرسة التجريد فهي حالة صادقة بالنسبة للغربيين لأنها عبرت عن تطور طويل بالفن التشكيلي لديهم، من الواقعية للتخبطات التي عاشوها وللنقلات التي مرّوا بها ولذلك هي حالة صادقة وجميلة، وبالنسبة لي لا أعرف كم سأتبنى التجريد الغربي وأكرره وهل هو حالة صحية أم لا؟ ولكنني أحب وأحترم هذه التجربة التي نتجت عن تطور بالرسم وعن استجابة لحالة حراك بالمجتمع. وعن التشكيل والشعر الذي يسكنها وقدّمت للمكتبة العربية عدداً من الدواوين الشعرية تقول رانيا: لدي الموهبتين وأحببت ان أكتشف العالمين واعتقدت في البداية أنهما اكتشاف وأن اعيش التجربة بفرح الرسم ولكن كان هناك إصرار من قبلي على الشعر، وهنا اللوحة هيأت المجال للشعر، وتنفيذ اللوحة يتطلب الجلوس مع الفراغ الأبيض والتأمل والاسترسال مما جعل من حالة الشعر أن تفرض نفسها علي بقوة، وعندما تأتي الحالة الشعرية وأنا أرسم أتحول مباشرة للحالة الشعرية لأنها لاتأتي دائماً ولذلك لابد من التمسك بها لأن الشعر لايأتي دائماً وإذا ذهبت الومضة الشعرية لن تعود ثانية. وعن السوشيال ميديا وهل خدمت الفنان التشكيلي توضح رانيا: بالتأكيد خدمته من ناحية بحيث صار من الممكن للفنان أن يعرض عمله دون أي عوائق وأن يتابع مباشرة ردود أفعال الناس، ولكن من جهة ثانية فإن هذه الوسائل قدّمت تجارب ليست ذات قيمة فنية إبداعية ومع ذلك أخذت قيمة أكبر من حجمها، وفي المحصلة أقول هنا أن هذه حالة صحية وليست سيئة فالناس زاد اهتمامها بالآداب والفنون بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكنها أن تدفع الناس لأن تقرأ المهم والجدّي وأن تحب الفن التشكيلي أكثر، وتبقى وسيلة يتقرر من خلال كيف يستخدمها الفنان فمن الممكن أن تخدمه أوأن تؤذيه!..هناك مبالغات لتجارب عادية حيث أناس يحبون المجاملة في وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن كم الوعي الموجود يمكن أن تعرف تستخدمها وأن توصل الفن المفيد وأن يعمم ولايبقى محصوراً ضمن الغاليري، الآن يمكن للوحة أن تنتقل بسرعة بين الناس، كذلك الشعر فبسبب السوشيال ميديا صار ينتقل وينتشر بشكل أسرع وهذا يحمّل المبدع مسؤولية كبيرة حيث يطرح المبدع منتجه أمام آلاف المتلقين فيجب أن يكون جدياً بطرحه. ولرانيا أخيراً رأي بموضوع تسويق الأعمال الفنية وبيعها توضحه: برأيي أن بيع اللوحة ثمرة، فكم تعطي الشجرة من ثمار يمكن قطفها ومن الصعوبة بمكان أن تبحث عن تسويق الفن الخالص وأن يكون مصدر رزق للفنان المبدع، هناك فنانون يعتبرونه ذلك، بالنسبة لي أحياناً يكون مصدراً للرزق وأحياناً لايكون، ولا أقف عند ذلك بل استمر بالعطاء بكافة الاحوال والظروف. وتبقى اللوحة ثمرة فإذا بيعت في يوم من الايام بمزادات شيء جيد وهل ستباع لوحتي بمزاد لا أعرف؟.. هناك وارد من اللوحات وبرأيي أن الفنان لا يهمه سعر المبيع في المزادات بل من يهتم بذلك الجهات المسوقة لأعماله الفنية.
مشاركة :