في الرحلة .. عليك أن تكون على استعداد دومًا لتغيير وجهتك أو تعديل خطتك كلما دعت الحاجة لذلك، أو أن تلعب دورًا جديدًا لم يخطر ببالك قط.. ففي أصفهان تحولت من فتاة جاءت لتستكشف «نصف العالم» إلى «تميمة حظ» عليها أن تقبل الهدايا والحلوى ودعوات الطعام! وأن توزع البشارة والابتسامات لكل من تلتقيه في ميقات محدد سلفًا.. ففي بعض التجارب الجديدة التي تقتحمنا حياة مختلفة ورؤية مغايرة لما رسخ في أذهاننا. فحين كان الفضول ينهش عقلي؛ وتُلح عليَّ أفكاري؛ أين النهر؟ سؤال يبدو منطقي، ولكن كانت الضحكات الممزوجة بتعبيرات الاندهاش هي الإجابة المشتركة بين من بادرتهم بالسؤال.. فسارعت بالتواصل مع صديق معماري يُجيد الإنجليزية والعربية والفارسية.. ودون الخوض في نقاش طويل سألته مباشرة أين النهر؟ ولماذا غدًا؟ فقص على حكاية نهر “زاينده رود”.. بأن في بعض فصول العام يجف النهر ويتحول مجراه إلى مجرى ترابي ويستمر الوضع كذلك أحيانًا بالشهور، إلى أن تذوب بعض المرتفعات الجليدية ويتدفق النهر من جديد، ومن عادة أهل أصفهان أن الأيام التي يتوقع فيها وصول النهر يحتفلون بقدومه وبقدوم الخير معه.. وأن من بين العادات القديمة أن «المسافر» إذا رأى النهر قادمًا إلى بلدة يتحول إلى «تميمة حظ»، عليه أن يُبشر العامة بقرب وصول النهر الذي رآه بأم عينه، وفي المقابل لا بد أن يتقبل دعوتهم للطعام أو لتذوق قطع الحلوى وما شابه ذلك ردًا لهذه البشارة المباركة.. فاقترح علىَّ أن أخوض التجربة واتجه إلى جنوب أصفهان حيث القرى والضواحي التي يصلها النهر مبكرًا.. ودون تفكير؛ تمنيت أن أكون حقًا «تميمة حظ» لأهالي أصفهان وقراها. لذا.. في صباح اليوم التالي، كانت قرية «بير بكران» هي وجهتي، وللأسف عندما وصلت في الصباح لم يكن النهر قد وصلها بعد فأصبني الإحباط قليلاً.. ولكن لم أترك اليأس يُفسد عليَّ اليوم ومتعته، فاتجهت إلى زيارة مدرسة الشيخ الصوفي محمد بن بكران وتمتعت بقراءة نقوشه وتفقدت بلاطاته الخزفية واستلهمت روح المكان والزمان حين كان يجتمع الشيخ بتلامذته يتفقهون في أمور الدين والحياة، وعند وفاته قرر تلامذته دفنه في البقعة التي شهدت على علومه ومعارفه الروحية… ثم انتقلت إلى المقبرة اليهودية الموجودة بالقرية وعلى مقربة من مدرسة الشيخ الصوفي، والتي ضمت بين جدرانها صفحة من تاريخ اليهود في فارس… وما هي إلا ساعات قليلة حتى توجهت مرة أخرى إلى مجرى النهر استكشفه؛ ربما أنول البشارة منه.. فإذا بالطمي اللزج قد بدأ في الظهور، وفي أقل من ساعة كان النهر بالفعل قد تدفق ببطء وثبات في مجراه، فسعدت كثيرًا وتحمست للعب دور «تميمة الحظ» التي أبلغني بها صديقي.. وقررت خوض التجربة بحماس.. وبالفعل.. في أول تجمع رأيته لبعض الأهالي ابتسمت لهم وأبلغتهم بفارسية بسيطة تكشف هويتي الوافدة، مُبشرة بأن النهر قد وصل بالفعل فتهللت وجوههم واستبشروا بوجهي، وقدموا لي قطع من الحلوى التقليدية والتقطنا بعض الصور التذكارية.. كانت عادة جديدة عليَّ ولكن استشعرت فيها بعمق وأصالة المثل المصري «الخير على قدوم الواردين» وتعلمت دفء نقل البهجة والمسرة إلى قلوب لا أعرفها ولكن أعرف جيدًّا أنها تنتظر من يبشرها بالخير. وأن المحبة فطرة زرعها الله في الإنسان، ففي مدينتي أيضًا نحتفل بالمولد النبوي الشريف بتوزيع مشروب مثلج، قرمزي، ومزدان بقطع من فاكهة الموز دلالة على الكرم، يُعرف بـ «شربات».. لا تستطيع أن ترفض ابتسامة ودعوة طيبة من غريب امتدت يده لك دون سابق معرفة بضحكة وكوب أحمر اللون و«كل سنة وأنت طيب» فتجيبه بدعوة شبيهه وصلاة مشتركة على النبي الكريم.. وفي نهاية اليوم اتجهت إلى القلب من أصفهان وفي الطريق إليها كنت أحرص على الوقوف أمام المزارعين والمارة وأبشرهم بقدوم النهر خلال ساعة فتتعالى التكبيرات والضحكات إلى أن وصلت لجسر سه وسه حيث يتجمع الأهالي منتظرين، فكانت فرصة سانحة لممارسة وظيفتي هذا اليوم؛ «تميمة الحظ». في أصفهان.. أماكن كثيرة جاهزة للاستكشاف فأترك قدماك تقودك، فأي مكان ستجد ما يستحق الزيارة… ففي وسط المدينة وتحديدًا في حديقة البلبل «العندليب» يرتفع مبنى مثمن الأضلاع يُعرف بـ «هشت بهشت» أي الجنات الثمانية أو (الثماني جنان). والقصر معماريًّا عبارة عن قبة مركزية محاطه بأربع غرف، والمبنى من طابقين فيكون بذلك عدد الغرف ثمانية حول قبة مركزية ويتقدم المبنى الحديقة الغناء وحوض المياه. يرجع تاريخ هذا القصر إلى عهد شاه سليمان 1080هـ من عهد الدولة الصفوية. ويمتاز هذا القصر بزخارفه وألوانه البراقة وأشغال الخشب – خاصة في الأسقف- المميزة التي ما زالت شاهدة على براعة الفنانيين في ذلك العهد. ثم اتجهت لمنار جُنبان أو «المنارات المهتزة» من أكثر الأبنية التي يحرص الزوار والسائحين على زيارتها في أصفهان لاستكشاف هذا المبنى البسيط في تصميمه المعماري؛ إيوان مفتوح يعلوه مئذنتان صغيرتان نسبيًّا، يبلغ ارتفاعهما 17 مترًا من سطح الأرض. والمبنى في الأساس مقبرة لواحد من رجال الصوفية الذين اشتهروا وذاع صيتهم في القرنين السابع والثامن الهجري/ الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين هو عمو عبد الله بن محمد بن محمود كارلاداني. إلا أن شهرة المبنى ترجع إلى منارته المهتزة وهي ميزة معمارية تجعل اهتزاز إحدى المناراتين يؤثر على الأخرى فتبدأ الثانية هي الأخرى بالاهتزاز؛ فيهتز المبنى بأكمله ويمكن رؤية هذا بالعين. وهو ما أكسب هذاه المقبرة أهميتها لدى العامة، خاصة في وقت الشتاء حيث يكون الهواء سبب قوي لاهتزاز المنارات والمبنى. ومن صُحبة عمو عبد الله إلى وسط ميدان نقش جهان؛ حيث يرتفع مبنى عالي من خمسة طوابق يُعرف بـ «عمارت عالي قابو» يزيد ارتفاعه عن أربعون مترًا ويرجع تاريخ إلى العهد الصفوي وتحديدًا إلى عهد الشاه عباس الأول. كان هذا القصر يعد أعلى المباني في مدينة أصفهان حتى وقت قريب. وتم بنائه على مراحل متعددة حتى اكتمل البناء في صورته الحالية. وأهم ما يميز هذا القصر هو اللوحات الفنية المرسومة بواسطة رسام البلاط رضا عباسي، وبالتكسيات الخزفية المتنوعة، بالإضافة إلى قاعات الموسيقى والغناء. وكان هذا القصر هو المفضل لدى السلاطين الصفويين لاستقبال الزوار والوافدين ولمشاهدة الاحتفالات الرسمية. أما هذا فهو «مسجد الإمام».. هذا حال الثورات دائمًا، المنتصر يُعيد صياغة الماضي بشكل ركيك.. فمن «مسجد الشاه» الصفوي الهوية والتكوين إلى مسجد الإمام نسبة للسيد الخميني الذي أُطلق اسمه على المسجد بدلاً من اصطلاح “الشاه” الذي يستدعي فكرة الإمبراطوريات والشاهات!! ومن تميمة الحظ إلى نقش جهان حيث كنت أرغب في شراء شيء مميز من المدينة يُذكرني بها، فتوجهت إلى محل يصنع المنسوجات بتقنية الطباعة الخشبية، واخترت تصميم للوحات من الشاهنامه، وأبيات شعر لحافظ والسعدي والخيام والرومي؛ لتُذكرني دومًا بمروري هنا وبمغامراتي في نصف العالم.
مشاركة :