قراءة لقصيدة (رقيم موصلي) للشاعر حميد سعيد

  • 9/28/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قراءة لقصيدة (رقيم موصلي) للشاعر حميد سعيد     لفتة سلمان الظفيري   أتحدّاكَ أيّها القاريء أن لا تَذرفَ لك عينٌ بِدَمعةٍ إنْ لم أقلْ تَنسكبُ انسكاباً، شَرطَ أن تكونَ تلك القراءة تتمتّع بما تتمتّع به قراءة الشعر من تَأمّل و إنشادٍ يَهيم به و يجلو ما خَفيَ منه في ظِلالِ شجر القصيدة الوارفة! هذا الإنشاد الذي أَلِفَهُ العربيّ و هو يُنشدُ قصائده مُلَحّنةً بذاك الحُداءَ الذي يختلطُ بِإيقاعِ خَطَوات الجمل الذي كان سفينته في الصحراء و منه اشتَقّ  مفردات الجمال و البهاء. إِذنْ لم يكن الإنشاد تَرَفاً زائداً لا يُغني المنشدين بل كان من أساليب الكشف عما يختبيء في أَعشاشِ طيور الكلمات التي تُفصح بأصواتِها و ألحانها المختلفات عما بقي في صدر الشاعر من تباريح الجراح التي لا تنقلُها اللغة كاملةً بل يَتصادى منها شيءٌ في الظِّلال و يُساعدُها على التمكّن من اصطياد بعضها ذاك النّشيد الحامل للأسى في الأغلب و في القليل منه ما يحمل من آثار الفرح ! و بذلك لم نجد في كتب الأدب القديم سوى عبارة( و أنشد الشاعر قصيدةً ………) و هي  لازمةٌ من لوازمِ القراءة المُثلى التي توصل للسامع ما لا توصلُهُ القراءة المُجرّدةُ من همٍّ لا يُرى بعينٍ  مُجرّدةٍ عن نَشيد ، و لذلك فإنني - حينما وصلَتني قصيدة (رَقيم موصليّ) و هي تُزَيّنُ صدرَ ( الزّمان ) الغَرّاء بلآليء فرادتِها المضيئة من صديقي الأستاذ الدكتور طه جزّاع - قرأتُها بذلك المُستوى من القراءة التي مَنَحتني بعض ما أضمرهُ الشاعر في روحِهِ التي لم يجد لها راحةً و دِفْءَ مكان الا بعودة الوطن مُتَحَرّراً من قيود الأسْرِ ! قصيدة ( رقيمٌ مَوصليّ) لشاعر الأُمّةِ الكبير حميد سعيد تَرثي وطناً كاملاً من خلال جُزْءٍ منه دَمّرَته الفتنةُ و جحافل الظلام فهو يقول : ذاتَ ليلٍ بَعيدٍ تَسَوَّرَتْ الريحُ بَيتاً..أَلِفْنا قَرَنْفُلَهُ في المَساءاتِ ، كُنّا نَلُمُّ النُّجومَ المُقيمةَ في الغابةِ الذَّهبيّةَ نُدْخِلُها في قَصائِدِنا و الغِناء ما أجملَ هذه المجاورة بين ذلك الليل  الذي فتَكَتْ به ريحٌ صَرْصَرٌ عبثتْ مخالبها السوداء بما ألِفَهُ الشاعرُ من القرنفلِ الذي يَنشُرُ شذاه في تلك الأماسي البهيجة التي شغلها لَمُّ النجوم و هذا تعبير تَشمّ من خلاله بأنّ الناس في ذلك الزمن قد فرغت حياتهم في الأرض من الهموم فراحوا يسَلّون أنفسهم بجمع النجوم التي ترصّع عيون الغابة الذهبية و هو كنايةٌ عن سعادة و رخاء  و الشاعر بقدراتِهِ اللغوية و دُربتهِ الشٍّعريّة يُخرج " "الغابة" من طبيعتها المخيفة حيث كانت ملاذاً للوحوش من الحيوان و احياناً من البشر كذلك الى إضافة صفة " الذّهبية " لها التي جعلتها ذات طبيعة أخرى تؤنسها النجوم و الناس الطيّبون ، و بهذا فالشاعر يَلعنُ الظَّلام الذي حلّ بالبلاد و يمتليء صدره حسرةً على زوال زمنِ المرح و اللعب  بتلك النجوم التي أقامتْ طويلاً حيثُ الغابة الذهبيّة التي هي ليستْ سوى العراق بشمالِهِ و جنوبِهِ ، و شَرقِهِ و غربِهِ و قد لَخَصّتْ الموصل مأساته الفاجعة! و كان ذلك الصفاء و البَهاءُ المَأسوف على ضياعِهما هما اللذان يشكّلان بَهاء القصيدة و الغناء! إنّها قصيدةٌ تُقَطِّعُ نياطَ القلوبِ بما شَحَنَها به شاعرُنا الفذّ من ذكرياتٍ هي صورة للحياة التي فتَنتْ عيون الأباعد و الأقارب فأصبحتْ مدن العراق كَعبةً للقادمين من العربِ و الأجانبِ و قد جَرتْ من تَحتِها الأنهار ! إنّ هذا الجدل القائم في القصيدة بين الخير و الشرّ ، و القُبحِ و الجمال يمنح القصيدة أفقاً واسعاً للقراءات المتعدّدة و حيّويّةً فاتنةً تَجعلُ المتمتّعين بِقراءة الشعر يَقفونَ عليها متنافسينَ ! المكان هنا هو " الموصل" بعراقتِها و تَفَرُّدِها و خِصْبِ أرضها التي نَبَتَتْ عليها الحَضارةُ قبل ميلاد يَسوع بآلاف السنين و قبل أن تنشأ دولٌ قامتْ على أثر إبادةِ أهلها الأصليين، و عمرُها لم يتجاوز الخمسمئة عام من عمر الزّمن الطويل . و الموصل  ما هي الا جزء لا يتجزّأ من العراق إذا دخلَه السّرور انتشر في بقية أجزاء العراق و اذا  غامتْ الدنيا هناك يغيم العراق ! و هو يضعنا في مجتمع تلتذّ أسماعنا فيه بوقع سِحْرِ راءاتِها الموصليّة و هذا يذكّرني فها هي ذي -أمامي تجلس- (سَحَر) الموصلية على ركن أريكةٍ في احدى كافتريات سامسون التركية المطلّة على ساحل البحر الأسود و هي تداعب الكلمات بلثغتها المحبّبة و المثيرة لذكريات سعيدة يُؤرّخ لها حميد سعيد في ( رقيم موصليّ): نُصغي الى سِحْرِ راءاتِها الموصليةِ تَروي لنا من حكاياتنا..ما نَسينا لِلنّجومِ المُقيمةِ في الغابةِ الذّهبية..أسرارُها و لَنا .. ما كَتَمنا من الوجد.. إنّ العصورَ التي انْتَشَرَتْ في حجارتِها.. تُفصح الآن عمّا مَضى من ملاحمِها .. و تُعيدُ الى مدنِ الأمسِ.. ما خَبّأَتْهُ الحناجرُ من نورِ أَلحانِها. يا لك من شاعرٍ يحمل هذا الهمَّ و الوجع الفاقع الذي تُخفي وجهه الكالحَ اللغةُ بقدر ما يبوح به سياقُ وَقْع الكلمات !بل قل انّ الشاعر بما يقيمه من ذكريات مثيرة  تخفف من هذا الألم الممضّ الذي نحسّ به بالمقارنة بين الماضي السعيد و وجه الواقع الجديد! انّ الوجدَ الذي حملتَه  أيها الشاعر عن الصدور التي تُؤويهِ في البلاد له نار يستعر بها استعاراً فلو مرّ بها الفرات لتَبَخّرَ و لَفارَقَتْهُ المياه! لك الله ! يعينك على معاناة لو خَطَرتْ ببال الجبال لتصدّعتْ ، فلم يَعد لدينا الا القصائد و الغناء يرويان لنا ما نسينا و هي التي تَخففُ عنا ثِقَلَ المأساة التي حَلّتْ بنا! و الشاعر الآن يقف أمام  هول ماحدث لهذه المدينة ذات العراقة مُتَأَمّلاً العصور التي حملتها حجارتها و هي تعبِّر بأبلغ لسان عما مضى من الملاحم التي هي خلاصة صورة تحكي ذلك الصراع بين الحياة و عوامل الفناء ، و نور المعرفة و دهاليز الظلام ، بل و تعيد الى مدن الأمس ما خَبّأْته الحناجر من الألحان و الغناء و الموسيقى التي تعمّقت على أيدي الموصليين: أبي اسحاق الموصليّ و ابراهيم الموصليّ. و ما أجملَ هذه الجملةَ الشعريةَ : ما خَبّأَتْهُ الحَناجرُ من نور ألحانِها. التي تحمل براءة ابتكارِها على يدَي نحّاتٍ ماهر قدير! هي قصيدة تحكي التاريخ العريق لهذه المدينة التي هي خير ناطق بلسان العراق الجريح و هذه الحكايات التي يتعلّلُ بها شاعرنا تحمل دِفْءَ الأمهات و طهرَهنَّ و ينقلنا مباشرةً و كأنّه يحمل كاميرة رسّام بارعٍ مُفتَنٍّ ليلفتَ نظر الذاكرة الى مايُشبّه به هذه الحكايات فهي كالخبز حينما يخرج من فُوَّهة تنور يفوح بنكهةٍ مازالت حاضرةً أشمها كما لو كانت الآن تملأ ذاك الفجر بخيره و العافية ! إنّ حميد سعيد يُشعّ روحاً و جسداً عن قيم الريف الأصيلة التي تعبّر عن الوفاء و الطيبة و الأصالة و من يراه يلمح دون جهد هذه الصفات معبّراً عنها بعبارته و نظرتِه و بشاشتِه خير تعبير،  و قصائده تبوح بذلك كلّه من خلال تشبيهاتِه و استعاراتِه المنتزعة من حياة الطفولة و أجواء القريةِ التي قليل من العراقيين من لم يمرّ بها ! ان قراءة هذه القصيدة  التي يطلق عليها نقداً ، و إِنْ كنتُ لا أَعُدّ نفسي من النقّاد، بل ما هي إلّا  قراءة او قل هي محاولة للقراءة تنقل ما تتركه في النّفسِ على الورق ، و هذه قد أسمّيها  تَجوّزاً بالنَّقد ! و الشاعر في الجزء الثاني من القصيدة التي تفصلها عن جزئِها الأوّلِ النقاط التي ما هي الا إشارة الى المسكوت عنه و الفراغ الذي يستطيع المتلقّي أن يُعين على تقدير المراد و مَلْئهِ بما يقتضيه السياق الذي ينتظم القصيدة فهو يحاور سيّدة البيت متسائلاً عن اللقالق التي فارقتها و كما ترى فإنَّ الشاعر مهووس بعناصر الطبيعة في الريف و هو ينقلنا الى صورة اللقلق الذي يملأ ذاكرة الريفيّ الذي لا يراه الا حينما يشتدّ البرد و تهطل الأمطار وهو على رحيل دائم و طالما تكون زيارتُه مُؤقّتةً و قصيرة فهو طائر الرّحيل و أظنّ الشاعر هنا يسأل عن أولاد سيّدة البيت الذين أصبحوا يتّخذون من رحلة اللقالق اسلوباً للوصول  الى المناطق التي يجدونها ملائمة لحياة الأمان و الإستقرار و هو كذلك يشير  لبعض طيور الريف التي ارتبطت حياتها بالهجرة و الرحيل كالقبّرات التي تظهر بعد الحصاد مُصلّيةً في الظّهيرة و هي تُحلّق في كبد السماء و هي من الطيور التي حُرِّمَ  علينا صيدها لأنّها كما  كان يقول آباؤنا و أمهاتنا : إنّها ( عُلْوية) و كذلك حُرِّمَ علينا صيدُ اللقالق التي قيل :إنّها تُنسبُ الى ( السادة) و كنّا نصَدِّق كلّ ما قيل دونما نقاش  و كذلك فإنّ ( الحجل) يدخل ضمن تصنيف الطيور المهاجرة و الإستثناء الوحيد هو أنها غير مشمولة بتحريم الصيدِ ، و قد فرّ الأبناء مهاجرين أو مهجّرين  و إنْ اختلف تعريف الكلمتين ؛   فإنّ النتيجةَ واحدةٌ و الهدفَ واحدٌ -كما تهاجر هذه الطيور باحثة عمّا يحقق لها الأمان - متأثّرين بما جرى على العراقيين من خُطوب يشيب لها الرّضيع! و لم يبق في ( العوجة ) او الأزقّة الموصلية الا صَدىً من أريجِ صِبا تلك السيّدة التي يناشدها الشاعر أن تفتح ببركاتها ماء الحياة لتزدهر متسائلاً : هل سيعود الى ليل تلك الأماسي الجميلة ذلك الموصليّ الملّا عثمان - الذي أمّهُ الموصل الحدباء- بعد غياب طويل ؟! و هنا ينشد الشاعر : .. افتحي الباب للماءِ يَنتظرُ الساهرون إِطلالةَ الماءِ ماذا خَبَأْتِ لنا؟ هل يعود الى ليلِكِ..الموصليُّ بعدَ غيابٍ طويل؟ و في هذه الأثناء يسمع الشاعر هديل الحمام العراقيّ الذي هو اشارة تُحيلنا الى ما جاء في قصة ( الطوفان) بأنّ ظهور الحمامة علامة دالة على وجود اليابسة التي كانت الميناء الذي رست عليه سفينةُ( نوح) و كأنّه يُبَشّر بعودة الحياة و بداية الخلاص ! و حميد سعيد و هو يغادر الجزء الثاني من القصيدة الى الفصل الثالث فاصلاً بينهما بالنقاط متَغزلاً بسيدة البيت التي هي ليست سِوى رمز لمدينة الموصل ذات الغِنى و الثّراء الحضاري الهائل  التي وهبتها العصور ما يَهَبُ الحقلُ للجائعين: ..كأنّي أراكِ و أجملُ ما فيكِ أنتِ ..إنَّ العُصورَ التي رافَقَتْكِ إلى لَيلِنا..في محافلِكِ الخُضْرِ .. أَعْطَتْكِ ما يَهَبُ الحَقلُ للجائعينَ و الماءُ للظامئينَ .. و كنتِ التي وهَبَتْ كلَّ ما يَهبُ البحرُ في مَدِّهِ و هنا الشاعر يخلع على الموصل كلّ الأوصاف التي تدلُّ على أنّها كانت مانحةً للحياة و ما تزال وهو متفائل بعودتها الى سيرتِها الأولى في العطاء و ستعود أُمّاً للرّبيعينِ و عنواناً عريضاً للكبرياء و الإباء فلقد كان المجد يرتع في مرابعِها الخضراء ، و ينابيعها التي لا تعرفُ معنىً للنُّضوب ! و يوجّه الشاعر لسيدّة البيت سُؤالاً بلاغيّاًكما يُصطَلَحُ عليه في الأدب الإنكليزيRhetorical Question  وهو " سؤال بيانيٌّ يَهدف الى التّأثير في النُّفوس و ليس الحصول على جواب" كما عرّفته بعض المعجمات و الشاعر الذي يعرف ان الشّعوب مهما أصابها من تَمَزّقٍ و دمار لن يَقهرَها عدوّ حاقد او استعمار فهي لا بُدَّ أن تعودَ بعد أنْ أودتْ براكينُ بِأسراب القَطا في الحقول و هو دائماً ما يستعير من طيور الريف الجميلة ( القطا جمع : قَطاة) ليصف به أهل الموصل الذين ابتلوا ببراكين مُدمِّرةٍ ! و الذي يقف على أطلال المدينة لا يجد فعلاً هذا حجمُهُ ، و دماراً هذا شَكلُهُ ، سوى أنّهما  ناتجانِ عن فعل آلاف البراكين و الزّلازل! و  الشاعر الكبير حميد سعيد مُدركٌ لما تتصّف به القطا من مزايا فهي لا تطير و هي مسرورةٌ الا جمعاً في أسراب و ليس في الطيور ما هو " أهدى من القطا" كما ورد في الأمثال و كأنّي بالشاعر أراد أن يقول: إِنَّ الخطوب لا تستهدف سوى الشعوب المجتمعة المُوَحَّدَةِ على الخير و الوئام و التي عرفت طريق الهداية و الرُّشد و الأمن و كذلك هم أبناء الموصل الحدباء  فيقول : أَوَ كُنتِ انْتَظَرْتِ في زَهْوِكِ الأبديِّ أنْ تَقعَ الواقعة؟! كنتُ أعرفُ أنّكِ عائدة.. من بَراكين أَودَتْ بِجمعِ القَطا في الحُقولِ..إلَيها و عاد إليكِ القطا و المُحبّونَ و من الملاحظ على الشاعر أنه يكتب قصيدته من نصّ ظاهر تحدّده لغة القصيدة و تنسجه الذكريات و نصّ آخر غير مكتوب يمكن أن أسميّه نصّ الدمار و الوجه الكئيب الذي تثيره الذكريات و تفصح عن خوائه و هزاله الصورة التي يرسمها حميد سعيد لمسرح السعادة و الفرح بالمقارنة و الشّاعر الكبير ينهي هذه القصيدةَ -الحُلم وهو يحلم بأن تتذكّره سيدة البيت التي كانت تشاركه في بداية القصيدة جمع النجوم المقيمة في الغابة الذّهبيّة فما أوجعَ أن يُنكرك الأحباب عن عمد او نسيان ! و ذلك أقصى ما يتمَنّاه من حُلُمٍ جميل و هذا حُلمُ الأوفياء: .. أحلُمُ .. أنْ يَتَذَكّرَني الليل و الغابةُ الذَّهبيّةُ أنْ تتَذَكَّرَني نَجمةٌ ضائعةْ بها و حميد سعيد و هو يغادر الجزء الثاني من القصيدة الى الفصل الثالث فاصلاً بينهما بالنقاط متَغزلاً بسيدة البيت التي هي ليست سِوى رمز لمدينة الموصل ذات الغِنى و الثّراء الحضاري الهائل  التي وهبتها العصور ما يَهَبُ الحقلُ للجائعين: ..كأنّي أراكِ و أجملُ ما فيكِ أنتِ ..إنَّ العُصورَ التي رافَقَتْكِ إلى لَيلِنا..في محافلِكِ الخُضْرِ .. أَعْطَتْكِ ما يَهَبُ الحَقلُ للجائعينَ و الماءُ للظامئينَ .. و كنتِ التي وهَبَتْ كلَّ ما يَهبُ البحرُ في مَدِّهِ و هنا الشاعر يخلع على الموصل كلّ الأوصاف التي تدلُّ على أنّها كانت مانحةً للحياة و ما تزال وهو متفائل بعودتها الى سيرتِها الأولى في العطاء و ستعود أُمّاً للرّبيعينِ و عنواناً عريضاً للكبرياء و الإباء فلقد كان المجد يرتع في مرابعِها الخضراء ، و ينابيعها التي لا تعرفُ معنىً للنُّضوب ! و يوجّه الشاعر لسيدّة البيت سُؤالاً بلاغيّاًكما يُصطَلَحُ عليه في الأدب الإنكليزيRhetorical Question  وهو " سؤال بيانيٌّ يَهدف الى التّأثير في النُّفوس و ليس الحصول على جواب" كما عرّفته بعض المعجمات و الشاعر الذي يعرف ان الشّعوب مهما أصابها من تَمَزّقٍ و دمار لن يَقهرَها عدوّ حاقد او استعمار فهي لا بُدَّ أن تعودَ بعد أنْ أودتْ براكينُ بِأسراب القَطا في الحقول و هو دائماً ما يستعير من طيور الريف الجميلة ( القطا جمع : قَطاة) ليصف به أهل الموصل الذين ابتلوا ببراكين مُدمِّرةٍ ! و الذي يقف على أطلال المدينة لا يجد فعلاً هذا حجمُهُ ، و دماراً هذا شَكلُهُ ، سوى أنّهما  ناتجانِ عن فعل آلاف البراكين و الزّلازل! و  الشاعر الكبير حميد سعيد مُدركٌ لما تتصّف به القطا من مزايا فهي لا تطير و هي مسرورةٌ الا جمعاً في أسراب و ليس في الطيور ما هو " أهدى من القطا" كما ورد في الأمثال و كأنّي بالشاعر أراد أن يقول: إِنَّ الخطوب لا تستهدف سوى الشعوب المجتمعة المُوَحَّدَةِ على الخير و الوئام و التي عرفت طريق الهداية و الرُّشد و الأمن و كذلك هم أبناء الموصل الحدباء  فيقول : أَوَ كُنتِ انْتَظَرْتِ في زَهْوِكِ الأبديِّ أنْ تَقعَ الواقعة؟! كنتُ أعرفُ أنّكِ عائدة.. من بَراكين أَودَتْ بِجمعِ القَطا في الحُقولِ..إلَيها و عاد إليكِ القطا و المُحبّونَ و من الملاحظ على الشاعر أنه يكتب قصيدته من نصّ ظاهر تحدّده لغة القصيدة و تنسجه الذكريات و نصّ آخر غير مكتوب يمكن أن أسميّه نصّ الدمار و الوجه الكئيب الذي تثيره الذكريات و تفصح عن خوائه و هزاله الصورة التي يرسمها حميد سعيد لمسرح السعادة و الفرح بالمقارنة و الشّاعر الكبير ينهي هذه القصيدةَ -الحُلم وهو يحلم بأن تتذكّره سيدة البيت التي كانت تشاركه في بداية القصيدة جمع النجوم المقيمة في الغابة الذّهبيّة فما أوجعَ أن يُنكرك الأحباب عن عمد او نسيان ! و ذلك أقصى ما يتمَنّاه من حُلُمٍ جميل و هذا حُلمُ الأوفياء: .. أحلُمُ .. أنْ يَتَذَكّرَني الليل و الغابةُ الذَّهبيّةُ أنْ تتَذَكَّرَني نَجمةٌ ضائعةْ

مشاركة :