من أجهض استفتاء الاستقلال لإقليم كردستان العراق عام 2017؟ | جوان ديبو |

  • 9/30/2022
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

بتاريخ 25 سبتمبر 2017، أراد الزعيم الكردي مسعود بارزاني الارتقاء بوضعية إقليم كردستان العراق من الفيدرالية الدستورية منذ 2003 (عمليا كانت أشبه بالكونفيدرالية) إلى الدولة المستقلة عبر إجراء استفتاء استقلال الإقليم وانفصاله عن العراق، إلا أن تداعيات الاستفتاء غير المحسوبة كرديّا كانت أكثر من كارثية بحيث باتت الفيدرالية ذاتها عرضة للهزات والأفول. وهذا ما يحدو بنا إلى تسليط الضوء في الذكرى السنوية الخامسة للاستفتاء على زاوية الفهم الكردي للسياسة كعلم وفن، أو محددات السياسة وتجلياتها في العقل الكردي. والغاية من مثل هذه المحاولة هي استخلاص بعض العبر المستقاة من ذلك الحدث الجلل والاتعاظ بمآلاته إذا كانت لا تزال هناك فسحة أمل لإعمال العقل على المستويين النخبوي والجمعي الكرديّيْن من أجل استنباط الدروس والعبر والاتعاظ بها. عرَّف معجم ليتره السياسة عام 1870 بقوله “السياسة علم حكم الدول”. وعرَّفها معجم روبير عام 1962 بقوله “السياسة فن حكم المجتمعات الإنسانية”. ويعرفها عالم الاجتماع والسياسة الفرنسي موريس دوفرجيه بأنها “علم القوة وتنظيمها في المجتمعات”. ويصفها رجل الدولة وصانع ألمانيا الحديثة أوتو فون بسمارك بأنها “فن الممكن، الممكن تحقيقه، فن الأفضل التالي”. الاستفتاء لم يستوف كافة الشروط المعمول بها في حقليْ السياسة والعلاقات الدولية القائمة على أرض الواقع، لا الافتراضية أو تلك التي يجب أن تكون حسب هوى ومصالح وأمزجة الكُرد وقادتهم بعد محاولة التقريب بين هذه التعريفات التي يفصل بينها ردح من الزمان، يتبين أنها تجعل موضوع الحكم وما يتفرع عنه، كمفاهيم القوة والواقعية والبراغماتية، جوهر السياسة وشغلها الشاغل. وجميع هذه التعريفات والدراسات المستفيضة عن علم السياسة والفلسفة السياسية لم تقر مثلا بأن مفاهيم مثل الحق أو المظلومية التي لطالما تشدق بها الكُرد لإضفاء الشرعية على الاستفتاء تشكل إحدى موضوعات السياسة التطبيقية أو التجسيدية. عند مقاربة استفتاء 2017 لاستقلال إقليم كردستان على ضوء تعريفات السياسة أعلاه، نصل إلى نتيجة مفادها أن الاستفتاء لم يستوف كافة الشروط المعمول بها في حقليْ السياسة والعلاقات الدولية القائمة والمحسوسة على أرض الواقع، وليست الافتراضية والمأمولة أو تلك التي يجب أن تكون حسب هوى ومصالح وأمزجة الكُرد وقادتهم. ونتيجة لذلك فشلت نتائج الاستفتاء، التي أيدت على نحو لا مراء فيه الانفصال عن العراق، في أن تتحول إلى واقع ملموس على الأرض؛ بمعنى أن عوامل ومقومات فشل أو إفشال نتائج الاستفتاء كانت أكثر بكثير من عوامل نجاح أو إنجاح الاستفتاء وتفعيل نتائجه. ويمكن تصنيف تلك العوامل والمقومات التي تضافرت لإجهاض ووأد ما تمخض عن الاستفتاء ضمن أربع فئات: كردية، عراقية، إقليمية، دولية. وما يهمنا في هذه العجالة هو المعطيات المحبطة على الصعيد المحلي في كردستان العراق عشية وأثناء الاستفتاء، والتي ساهمت في تقويض نتائج الاستفتاء حتى قبل الشروع فيه، كالتشرذم الداخلي المزمن وغياب حكم القانون والمؤسسات والاستعاضة عنه بحكم الحزب والعشيرة، وما يعنيه ذلك من تفشي الطرق البدائية والفساد والمحسوبية داخل ما يسمى بمؤسسات الحكم الحزبية والعشائرية والمناطقية. فشل المؤسسات الكُرد لم ينجزوا ما كان متوقعا ومطلوبا منهم خلال مرحلة الفيدرالية الكُرد لم ينجزوا ما كان متوقعا ومطلوبا منهم خلال مرحلة الفيدرالية مفهوم الحُكم، والذي يعتبر موضوع السياسة الأول، في حالة استفتاء استقلال كردستان العراق مرتبط بأداء قيادة الإقليم على الصعيد الداخلي منذ 1991 و2003 ومدى نجاعة هذا الأداء في توفير الأرضية الملائمة لإنجاح الاستفتاء وتحويل نتائجه إلى وقائع ملموسة. وفي هذا السياق تشير معظم المعطيات بشكل لا لبس فيه إلى أن جُل ما تمخض ويتمخض عن هذا الأداء لم ولا يخدم مسعى الاستقلال نهائيا، لا بل كان ومازال على النقيض منه؛ فمن الناحية الواقعية إقليم كردستان العراق مُقسم إلى إدارتين، إدارة أربيل “بارزانستان” المنقادة من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني “حدك”، وإدارة السليمانية “طالبانيستان” المنقادة من قبل الاتحاد الوطني الكردستاني “أوك”. بعد انقضاء أكثر من ثلاثة عقود على الاستقلال النسبي الكردي مازلنا نقول بيشمركة “حدك” أو بيشمركة بارزاني، وبيشمركة “أوك” أو بيشمركة طالباني. أخفقت القيادة الكردية خلال أكثر من 30 سنة في بناء جيش موحد للإقليم في إطار فشلها العام في بناء مؤسسات حقيقية كان من الممكن أن تكون بمثابة نواة الدولة المستقبلية. عندما انسحبت البيشمركة من كركوك أثناء هجوم الحشد الشيعي الإيراني في أعقاب الاستفتاء، أوضح رئيس الإقليم السابق بلغة يعود جوهرها إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي أن فصائل من “أوك” انسحبت من كركوك بقرار ذاتي دون الرجوع إلى القيادة! وهنا أسأل رئيس الإقليم السابق والرئيس الحالي لـ”حدك”: لماذا وكيف لم تستطيعوا بعد حوالي 30 عاماً الدمج بين البيشمركة من الحزبين وبناء جيش موحد للإقليم؟ علما أن هناك وزارة للبيشمركة، لكنها شكلية ولا دور لها، ثم تأتي وتقول بكل بساطة إن فصائل من “أوك” قد انسحبت بشكل ذاتي وتسببت في الكارثة! هل هذه الذريعة تعفيك من مسؤولية عدم بناء جيش موحد للإقليم طوال الثلاثين سنة الماضية؟ الكُرد لم ينجزوا ما كان متوقعا ومطلوبا منهم خلال مرحلة الفيدرالية (واقعيا كانت كونفيدرالية) ولم يقدموا نموذجا يمكن الإشادة به من حيث الجوهر، ومع ذلك رفعوا سقف طموحاتهم دون توفر مقومات النجاح والصمود داخلياً. وفي هذا الصدد دأبت قيادة الإقليم على مقارنة تجربة الإقليم في الحكم بتلك الموجودة في بغداد متباهية بأنها أفضل منها. لكن أن تقارن نفسك مع الأسوأ لا يعني أنك جيد، وفي أحسن الأحوال قد يعني ذلك أنك سيء، وأفضل قليلا من الأسوأ. لم تتمكن القيادة العشائرية في كردستان العراق من تحويل الفيدرالية إلى نواة الدولة المنشودة. وبالتالي هزمت العشيرة الدولة وأرادت بناء دولة العشيرة التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحداثة والبقاء والصمود. الذين أسقطوا استفتاء استقلال كردستان في سبتمبر 2017 هم الكُرد أنفسهم وقيادتهم السياسية والقائمون على الاستفتاء قبل معارضيه. عندما لا يتم الاستعداد جيدا لعملية سياسية ما وعندما لا يتم السعي الدؤوب والمنهجي إلى توفير أسباب ومقومات النجاح، فهذا يعني بشكل من الأشكال أن القائمين على تلك العملية يحكمون عليها بالفشل حتى قبل أن تبدأ، وبالتالي يشاركون في تقويضها. وهذا ما حدث بخصوص استفتاء الاستقلال في الإقليم. لم يكن هناك إجماع بين القوى السياسية الرئيسية في الإقليم على مضمون وتوقيت الاستفتاء، حتى أن بعض التقارير قد أشارت إلى أن رئيس حكومة الإقليم آنذاك نيجيرفان بارزاني لم يكن أيضاً من المتحمسين للحدث. هذا ناهيك عن مواقف قيادات بارزة في “أوك” عارضت الاستفتاء شكلاً ومضموناً وأيضاً أغلب قادة حركة التغيير الذين باتوا يُعتبرون خونة في نظر البارزانيين الذين يحتكرون ويمنحون صكوك الوطنية وفق التفكير القروسطي. برلمان مغلق Thumbnail كان البرلمان الكردستاني معطلاً ومغلقاً لأكثر من سنتين قبل الاستفتاء ورئيسه كان ممنوعا من دخول أربيل لانتقاده العائلة البارزانية الحاكمة، وفُتحت أبواب البرلمان قُبيل تاريخ الاستفتاء بأيام قليلة للتصويت على قرار الاستفتاء وغاب عن تلك الجلسة حوالي نصف أعضاء البرلمان. رئيس الإقليم نفسه الذي يعتبر مهندس الاستفتاء كان يمر بظروف سياسية حرجة بسبب انتهاء ولايته وكان يبحث عن منفذ للخروج من المأزق الذي كان يعيشه بسبب انتهاء ولايته في رئاسة الإقليم، والاستفتاء في حال كُتب له النجاح كان سيكون بمثابة طوق النجاة للزعيم الكردي وربما كان سيمكّنه من أن يصبح ملكاً مطلقا على كردستان. لم يشهد القرن العشرون ولادة دولة بالطريقة التي لجأ إليها بارزاني. على سبيل المثال لا الحصر، معظم الدول العربية الراهنة تأسست بموجب اتفاقيات دولية من قبل الدول العظمى إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية. أما في حالة استفتاء استقلال كردستان فإن جميع الدول العظمى كانت منقسمة بين الرفض والدعوة إلى التأجيل. اتهام تلك الدول من قبل الكُرد بالكيل بمكيالين والنفاق وازدواجية المعايير لن يغير من الأمر شيئاً. لا يوجد شيء في السياسة اسمه “من حيث المبدأ” ومن “حيث الواقع”. الجاهزية والمتانة الداخلية تجعلان المبدأ والحالة الافتراضية أمرا واقعاً، وغياب البناء السليم والوحدة الداخلية يجعلان من ذلك المبدأ حالة افتراضية ونظرية بحتة غير قابلة للتبلور في نماذج واقعية. والحق الذي لا تصاحبه القوة والحكمة والتعقل والدهاء والبصيرة من قبل مطالبيه يصبح سراباً وقد يتحول إلى باطل حتى في نظر الأصدقاء المفترضين. لم يكن من السياسة والحكمة القيام بالاستفتاء في ظل عدم توفر شروط ومقومات النجاح الداخلية. وعدم العمل على خلق تلك الشروط والمقومات من قبل منظمي الاستفتاء يعني الحكم عليه بالإخفاق سلفا ودفع تكاليف باهظة جراء الإخفاق الناتج، وستتبدى المسألة برمتها في نهاية المطاف وكأنها مغامرة دونكيشوتية. ضياع الفرصة الاستفتاء زاد من تأرجح الفدرالية الاستفتاء زاد من تأرجح الفدرالية خسر الكُرد الكثير جراء ذلك الاستفتاء النزق وغير المدروس؛ فقد تم استرداد معظم الأراضي المتنازع عليها -بما فيها مدينة كركوك- من سيطرة البيشمركة الكردية، بالإضافة إلى خسارة الموارد النفطية التي كانت ستشكل عصب الدولة الكردية المنشودة. وتم تجريد الإقليم من الكثير من الصلاحيات والامتيازات. عمليا لم يعد هناك وجود للمادة 140 التي تدور حول الأراضي المتنازع عليها من قبل المركز بغداد وأربيل. وعكَس الانسحاب العسكري الكردي المهين من كركوك ومعظم المناطق المتنازع عليها الانقسامات العسكرية المزمنة والحادة بين قطبي الإقليم والانهيار المعنوي الكبير على الصعيد الشعبي الذي لم تداوه استقالة مسعود بارزاني وتواريه عن الأنظار وهشاشة الجبهة الداخلية لإقليم كردستان، وقد رأينا كيف أن الخطر قد أحدق بأربيل نفسها بعد سيطرة الحشد الشيعي الإيراني على كركوك والجميع انتابه الهلع خوفا من ضياع فيدرالية الإقليم برمتها. أضاع الكرد جراء الاستفتاء فرصة المطالبة أو التمتع بالكونيفدرالية الرسمية على المدى المنظور. وبالتالي بدلا من أن تتحول الفيدرالية الحالية إلى توطئة للكونفيدرالية، أدى الاستفتاء إلى تأرجح الفيدرالية ذاتها وأصبحت عرضة للاهتزاز والانكماش وذلك بسبب تكالب رجالات الإمام والسلطان في بغداد وبإيعاز من طهران وأنقرة ضد فيدرالية الإقليم. بتاريخ 25 سبتمبر 2017 حاول الكُرد في إقليم كردستان العراق أن يعلنوا دولة فاشلة جديدة في الشرق الأوسط لتضاف إلى القائمة الطويلة للدول الفاشلة في العالم، إلا أن حلمهم أو بالأحرى حلم بعض قادتهم بالإتيان حتى بالدولة الفاشلة قد تم إجهاضه في المهد.

مشاركة :