جورج شتاينر: أوروبا حضارة مشوبة ببذور بربرية

  • 10/6/2022
  • 00:29
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تجتاح أوروبا موجة من الفكر القومي اليميني المتشدد، توشك أن تجب إرث الأنوار وتراث عصر النهضة، فشوكة التيارات الراديكالية آخذة في الاستقواء، شعبيا ومؤسساتيا، بشكل غير مسبوق، في أكثر من دولة. يوما بعد آخر، يكتشف المتابع للشأن العام الداخلي الأوروبي أن قيم الحداثة والتنوير أضحت في مهب الريح، بعدما تنكرت لها شريحة عريضة من المجتمع، نخبة وعوام، على حد سواء. يبدو الأوروبيون في أمس الحاجة إلى مراجعة الإرث الفكري لواحد من عقلائهم، ممن استوعب جيدا دروس التاريخ في الحرب العالمية الثانية، بعدما صدمته الشمولية والمجازر التي كشفت عن ذروة العنف الإنساني، وفضحت البربرية الأوروبية، التي ترفض أوروبا مواجهة جذورها إلى اليوم، بحسب هذا المثقف - وإن كان يتحفظ على النعت مفضلا وصفه "سيد القراءة" - الفرنسي الأمريكي ذو الأصول النمساوية، الذي أطلق على نفسه البدوي المترحل الذي ينزح من أرض إلى أخرى خوفا من الهلاك. جورج شتاينر "1929 - 2020" فيلسوف وروائي وناقد أدبي، من أصول يهودية، درس ودرس الأدب المقارن في كبرى الجامعات العالمية "أكسفورد، شيكاغو، كامبردج، هارفرد، برنستون، جنيف..." عشق الآداب الكلاسيكية القديمة، وامتلك ناصية اللغات بقوة. فقد أتقن مبكرا اللغة الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية، نتيجة إصرار والده على تعليمه اللغات الأوروبية، لدرجة أن الطفل جورج، وهو في الخامسة من عمره، كان يتلو مقاطع من ملحمة الشاعر الإغريقي هوميروس. كانت اللغة جسر الرجل نحو ولوج عوالم ثقافية رحبة، مكنته من استجلاء طبيعة العلاقات التي تربط اللغة بالاجتماع الإنساني، فبدأ في تركيب الأسئلة الإشكالية عن الفوارق بين الإنسان ذي اللسان الواحد والإنسان ذي الألسن المتعددة، عادا أن هذه الأخيرة عامل أساسي في إثراء الوجدان الإنساني. يحاول شتاينر أن يقدم نفسه مثالا حيا على آثار هذه التعددية اللغوية التي قذفت به في عوالم غنية، من صنوف الأدب القديم نحو عوالم المسرح وصولا إلى رحاب الموسيقى والفنون الجميلة. دراية البروفيسور العميقة باللغات الأوروبية، منحته قدرة هائلة على نقدها، وحتى تقييم أدائها، فالإنجليزية في نظره منتشرة لا بسبب قوة الولايات المتحدة، وإنما بفضل روحها المتفائلة، فهي لغة الوعود المشرقة التي أجملها إعلان الاستقلال الأمريكي، في "السعي إلى السعادة". عكس ذلك، تراوح اللغة الألمانية ما بين المثالية والتشاؤمية، فيما تغرق اللغة الفرنسية في الماورائية... يذهب الرجل بعيدا في قراءته الألسنية، فيسجل تشدد الفرنسيين تجاه الدخلاء، عند اللحن أو التلعثم في استخدام لغتهم. نظير تسامح الأمريكيين مع الأمر، واعتباره دليلا على صدق ونزاهة المتكلم. يتحفظ الفيلسوف وبشدة على الحدود الأكاديمية المفروضة بين الحقول المعرفية، فكانت موسوعة إنسانية ناطقة، والموسوعة هنا بدلالة إيجابية "المعرفة النقدية" وليس بالمعنى الاستعراضي "خزان معلومات". وعمل طيلة حياته على كسرها بتجسير الروابط بين العلوم، حتى استحق وبجدارة وصف "كلية من الإنسانيات وأكاديمية وحده". فقد جعل القارئ العام هدفا له، في سعيه المستمر نحو إشاعة الوعي المستنير والعميق بالآداب والفنون، واشتباكهما بالثقافة والحياة. لذا نجد "رجل عصر النهضة المتأخر"، بتعبير زملائه، يسجل حضوره في شتى الحقول المعرفية، مع سبق إصرار على أن يكون نوعيا. فانتقد وبشدة، على سبيل المثال، التحليل النفسي لسيجموند فرويد، فالارتباط الغرائزي بين الابن والأم تعبير عن اعوجاج خطير في ذهن صاحبها. وبلغ به الأمر حد اعتبار عقدة أوديب من أفظع النظريات عبثية واستهتارا بمنزلة الكائن الإنساني. وفي السياسة الدولية انتقد فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، عادا أن "النظريات حول نهاية التاريخ تبدو عبثية، نحن حيوانات عنيدة جدا وصلبة جدا. نعاني كم كوارث ونتكبد خسائر في الأرواح... ولا تزال الحياة متواصلة إلى حين نقول، إنها النهاية. ومن المؤكد أن التاريخ يتقدم بسرعة على المستوى العلمي والتكنولوجي غير أنه بطيء التقدم في النواحي الأخلاقية". تبقى الروح الإنسانية لشتاينر أساس استدعائه أوروبيا في هذا التوقيت، فقد أسهمت طفولته وأصوله اليهودية من ارتفاع شدة عدائه للفكر القومي والشوفينية، "السر الأسود لما حدث في أوروبا لا ينفصل عن هويتي الخاصة". لذا ما انفك يكرر دعواته بقوله، "إذا لم يتعلم الناس كيف يكونون ضيوفا لدى بعضهم، سندمر أنفسنا، وسنشهد حروبا دينية وعرقية". وفي انسجام تام مع موقفه رغم أصوله، يعد أن "إسرائيل ليست الحل الوحيد الممكن، فحتى إن اختفت دولة إسرائيل من الوجود، الديانة اليهودية ستبقى لأنها أكبر بكثير من إسرائيل". وفيما يشبه تحليلا للمستقبل، بعيون الماضي، إذ كلامه يفسر بشكل كبير موجة التطرف اليميني في أوروبا اليوم، يؤكد النهضوي المتأخر أن الثقافة والفنون لا تحصن الأفراد والمجتمعات من الإقدام على الكوارث، فكتب قائلا، "نعرف الآن أن رجلا ما يمكنه أن يقرأ يوهان جوته أو رينه ريلكه في المساء، وبإمكانه أن يلعب موسيقى يوهان باخ وفرانز شوبرت، ثم يذهب إلى عمله النهاري في معسكرات الاعتقال النازي -أوشفيتز- في الصباح التالي". يؤكد آخر المثقفين الرحالة، القادمين من وسط أوروبا، محدودية الثقافة في تغيير العالم، فنحن لم نبلغ بعد درجة نكون فيها "ضيوف الإنسانية"، مستوحيا ذلك من عبارة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، "نحن ضيوف الحياة". هكذا يتساءل عن آثار الثقافة "ما الذي تغير؟ وفي أي وقت؟... حين أقرأ مع طلابي نشيدا من أناشيد هوميروس، أو قصيدة من قصائد بيندا، أو مسرحية لأريستوفان، أشعر أنا وهم، بأننا نعيش الزمن نفسه الذي كانوا يعيشون فيه، ومعهم نضحك ونبكي. إذن يمكن القول إن هناك تغييرات حدثت، لكن على مستوى السطح فحسب، أما الروح البشرية فلم تتغير". حقيقة مرة يتحاشى الأوروبيون سماعها، في لحظة انتشاء جماعي بأيديولوجية متطرفة، لذلك سيمعنون في طمس إرث رجل رشيد، يصر على الحفر في الذاكرة بحثا "عن العلاقة بين تاريخنا الثقافي الهائل والكبرياء اللامحدودة لحضارتنا والبربرية. أعتقد أن أوروبا... حملت في طيات تاريخها السري والعلني بذورا لا إنسانية عميقة".

مشاركة :