للمرة الأولى، يصدر كتاب «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي عن دار «أكت سود» - سلسلة «سندباد»، التي يديرها الناشر والمؤرخ السوري فاروق مردم بك. وقد ترجمته الصحافية هالة قضماني، وكتب مقدمته حفيده الدكتور سلام الكواكبي. وهنا نصف المقدمة: «الكتابة عن علمٍ من أعلام الفكر النهضوي مهمة صعبة بالمطلق. وأن ينبري حفيد عبد الرحمن الكواكبي إلى تقديم هذه الوثيقة التاريخية والتي تنشر لأول مرة باللغة الفرنسية، يضع على كاهله مسؤولية ذات بعدين، علمي وعاطفي. وعلاقتي مع الجد الأكبر تمتد إلى سنوات الطفولة. وعرفت صورتيه باللباس الديني وتلك التي ارتدى فيها لباس الأمير العربي. وسمعت الكثير من الروايات المحكاة من قبل المسنين في العائلة عن أموره الشخصية. وقرأت مقتطفات مما كتب بصعوبة مترافقة مع الفخر الذي يكتنف الصغار، والتفاخر الذي يبرزونه أمام رفقائهم عند الحديث عن هذا الشخص. حتى إنني، وفي إطار الفانتازيا الطفولية، اخترعت بعضا مما لم أقرأ في تلكم السن، وبدأت أعيش مع شخصية روائية بامتياز كثيرا من المغامرات السياسية بقدر وعي المرحلة. وقبل النضوج العمري والفكري، وقبل أن أختار التخصص بالعلوم السياسية، كانت حكايات عمة أبي، ابنة الكواكبي التي عمّرت، تداعب طفولتي وتُغني أقاصيصي. وقد كان هذا الغائب الحاضر دائما كتلة من الأساطير ومن حكايات الألغاز بالنسبة للطفل الذي كنت. وأول صدمة إيجابية ما زلت أذكرها، هي علمي بأن شيخا وعالم دين وإماما، في نهاية القرن التاسع عشر، يتوجه إلى زوجته من غربته المفروضة ويناديها يا حبيبتي. يكتب بحنان شاعري وغزلٍ مرهف إلى من أجبره الاستبداد على الابتعاد عنها، ويتوجه بوعي عميق إلى أبنائه وبناته طالبا بكل شفافية أن يعتنوا بأمهم التي يحب. كانت هذه هي الكلمات الفاتحة لي على الحب ومفاهيمه. وصرت أتخيل حوارات عاطفية بين الإمام الكواكبي وزوجته في صحن دارتهم الحلبية الفسيحة. مع انتقالي إلى مرحلة الشباب والدراسة والجامعة، أصبحت أُسأل من قبل كل من يقابلني لأول مرة عن صلتي بالكواكبي الكبير، ناعتا إياه بصفات تعظيمية متنوعة وأحيانا متناقضة. وقد كان هذا، كما في الطفولة، مدعى فخر واعتزاز في مرحلة، وأضحى عبئا ثقيلا عندما أنهيت دراستي وبدأت في إلقاء المحاضرات والكتابة والمشاركة في الندوات. والسبب يكمن في أن سقف التوقعات من أدائي كان عاليا والوصول إليه كان متعبا. إضافة، فقد كان النظر أحيانا إلى ما أقول وأكتب مرتبطا بهذه القرابة أكثر من شيء آخر لفترة. وبقدر ما يكون هذا مبعثا للنشوة، فإنه أيضا سبب للضيق، خصوصا عندما أُحاسب على عدم مواءمة ما أطرح مع ما طرحه الكواكبي منذ نيف ومائة عام. وكأنني الناطق الرسمي المعتمد، ولا يحق لي أن أختلف مع أي مما قاله. في ما بعد، انتقل معي الكواكبي في أسفاري وفي دراساتي وفي أحلام اليقظة والمنام. فكم من مرة ظهر لي مرتديا عباءة الشيخ وحدثني بعمقٍ علماني مفاجئ. وكم مرة اصطحبت هذا الكتاب الذي ستقرأون في حلي وفي ترحالي كي أحظى بدقائق (تأمّل) قبل الخلود إلى النوم. في حقبة ربيع دمشق المؤود بداية الألفية الثانية، قام بعض المثقفين في حلب بتأسيس منتدى الكواكبي للحوار الديمقراطي والذي سرعان ما تم منعه وإغلاقه في إطار عقلية إقصائية وتسلطية تحرم المجتمع من أي فسحة حوار أو تعبير عن الرأي في دولة أمضت عقودا خمسة في ظل مصادرة المجال العام، وفي جو من التصحّر والتصحير الثقافي والفكري راعيا الظلامية والفساد بامتياز. وفي سنة 2002، وكنت حينها مسؤولا عن المعهد الفرنسي للدراسات العربية في حلب، شاركت في تنظيم ندوة فكرية مع الصديق ماهر الشريف حول مآلات الفكر النهضوي في تيار الإصلاح الديني، وذلك بمناسبة مرور مائة عام على وفاة الكواكبي. وقد حضر فيها كبار الباحثين في الفكر السياسي والديني من أمثال نصر حامد أبو زيد وآلان روسيللون وآصف بيات وفرنسوا بورغا. وبعد انتهاء أعمالها التي تميّزت بالغنى الفكري وبالحوارات الهادئة وبالحضور الكثيف، أمضيت أياما عدة ألبي استدعاءات أمنية من قبل فروع عدة لمساءلتي عما جرى، وكأن التطرق إلى الفكر التنويري المعادي للاستبداد هو عمل إرهابي. وكانت جُلّ الاتهامات إن صحّ التعبير مرتبطة بتخوّف الأمن من تحريض التفكير لدى الناس. قالوها بصراحة ولم يخفوا رهبة الحديث عن الاستبداد في السنوات الأولى من عهد بشار الأسد وارث العرش والذي ظن البعض في سوريا وفي خارجها أنه حامل راية الإصلاح والانفتاح السياسي. وهاجمني حينذاك، وبتحريضٍ من السلطات، رجال دين رسميون – يسميهم الكواكبي بالمتعممين - معتبرين أنني، وبالحرف، قد جمعت الشيوعيين والملحدين والعلمانيين والماسونيين وعملاء الإمبريالية للتحريض على الإسلام. هذه هي عقلية النظام الذي ادعى العلمانية وصدقه الكثيرون بل وما زالوا. تجربة ممتعة ومرهقة في الآن ذاته، وقد فهمت بشدة أن الحديث عن التنوير في ظل الظلامية الدينية المبرمجة من قبل السلطات التي تدعي العلمانية هو خطيئة لا تغتفر. ومنذ ذاك الوقت، بدا أن هذا الإرث الوطني أصبح مصدر قلق للمستبد الحديث. وعلى الرغم من إيراده في الكتب المدرسية كمفكر سوري يُفتخر به، فإن تدريسه اقتصر على سرديات لا تغني ولا تسمن. وقامت الندوات الفلكلورية للحديث عن أعماله بعيدا عن كتابه الأهم والأبرز الذي بين أيديكم».
مشاركة :