"الحرية التى تنفع الأمة هى التى تحصُل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التى تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئا، لأن الثورة -غالبا- تكتفى بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولا". هذه المقولة لأحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسى الفكر القومى العربى، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التى تناقش ظاهرة الاستبداد السياسى. هو «عبد الرحمن أحمد بهائى محمد مسعود الكواكبى» عام ١٨٥٥م، تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبى على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. يقول عن التغيير: "العبرة بالنظام لا بالفرد وان النواقص التى تلازم انظمة الحكم الاستبدادية لا يمكن أن تعالج بالتغييرات أو التبديلات التى تحدث للأفراد ولا تتناول سوى الأشخاص، بل هى تحول الأشخاص الصالحين إلى أشباه مستبدين في أحسن الأحوال" أما عن الحرية فيقول: "الحرية أن يكون الإنسان مختارا في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم، ومن فروعها تساوى الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء عن الشعب، وإذا فقد الإنسان حريته يسأم حياته فيستولى عليه الفتور ويصيبه الخمول فتتعطل فيه كل إرادة للعمل والإبداع. ويلخص مشروعه في مقاومة الاستبداد بثلاثة عناصر "الوعى، والتدرج السلمى فيقول ان الاستبداد لا يقاوم بالشدة انما باللين والتدرج والثالث تهيئة البديل". وكأنه يؤكد لمقولة مهمة "على الموافق تقديم دليل وعلى المعترض تقديم دليل" وبهذا تكون المعارضة لأنظمة الحكم معارضة علمية وهادئة ونقد للبناء وليس للهدم. وبالنسبة إلى العلاقة بين الاستبداد والدين يميل الكواكبى إلى الرأى القائل – وهو بإجماع العلماء – إلى أن "الاستبداد السياسى متولّد من الاستبداد الدينى"، فالتعاليم الدينيّة تستلبُ العقول وتجعلها ترتكن للخبل والخمول، وهو الأمر الذى يجيده السياسيون ببراعة، فيسترهبون الناس بالتعالى الشخصى، ويسترهبونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال. والتشاكّل بين القوتيْن (الدينيّة والسياسيّة) ينجر بعوام البشر – وهم السواد الأعظم – إلى غياب الفرق بين الإله المعبود بحقٍّ، وبين المُستبِدّ المُطاع بالقهر، وقد سهّل إمّحاء الفرق في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين بالألوهية على مراتب مختلفة. وينتهى الأمر بهؤلاء العلماء إلى القول بأن بين الاستبداديْن (السياسيّى والدينى) أواصر التقاء لا تنفك، فما إن وُجد أحدهما وجد الآخر بالتبعيّة. والعكس صحيح، فمتى زال أحدهما زال قرينه، ومن ثمّ فيرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقرب طريق للإصلاح السياسيى، ومن واقع مقارنته للأديان ووضعية الاستبداد ينتهى إلى أن الإسلام برىء من تأييد الاستبداد، معتمدًا على مئات الآيات البينات، فالإسلام مؤسس على أصول الحريّة مجرّدة من كلِّ سيطرةٍ وتحكُّم. فالإسلام لا يعرف سلطة دينيّة ولا اعترافًا ولا بيع غفران، ولا منزلة خاصّة لرجال الدين. وفى ضوء هذا لا ينسى أن يُحمِّلَ البشر تبديل آياته وتطويعها وفقًا لرغباتهم الاستبدادية، فدخل عليه الفساد ما دخل على كل دين. وفى ختام كتاب طبائع الاستبداد يقول: "وإنى أختم كتابى هذا بخاتمة بشرى، وذلك أنَّ بواسق العلم وما بلغ إليه، تدلُّ على أنَّ يوم الله قريب. ذلك اليوم الذى يقلُّ فيه التفاوت في العلم وما يفيده من القوّة، وعندئذٍ تتكافأ القوات بين البشر، فتنحلُّ السلطة، ويرتفع التغالب، فيسود بين الناس العدل والتوادد، فيعيشون بشرًا لا شعوبًا، وشركات لا دولًا، وحينئذٍ يعلمون ما معنى الحياة الطيبة: هل هى حياة الجسم وحصر الهمّة في خدمته؟ أم حياة الروح وغذاؤها الفضيلة؟ ويومئذٍ يتسنّى للإنسان أن يعيش كأنَّه عالم مستقلٌّ خالد، كأنَّه نجمٌ مختصٌّ في شأنه، مشتركٌ في النظام، كأنَّه ملكٌ، وظيفته تنفيذ أوامر الرحمن الملهمة للوجدان".
مشاركة :