سبر لأغوار أكثر الأماكن إيلاما في علاقة كل أم وابنة في 'العطش'

  • 10/20/2022
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

رواية "العطش" للهولندية استير خيريتسين عمل جريء يصف بقوة مشاعر فتاة تمر بأزمة حادة، تتمرد على أسرتها وعلاقتها بأمها بالانغماس في علاقات جنسية متعددة.. لا تخشى فيها الكاتبة من وضع إصبعها على أكثر الأماكن إيلامًا في حياة كل من الأم والابنة، سواء تعلق الأمر بإدمان الكحول أو السمنة أو ممارسة الجنس بلا حب، أو استحالة القدرة على المحبة والتواصل مع الآخرين. تبدأ الرواية الصادرة عن دار صفصافة وترجمة عبد الرحيم يوسف بلم شمل محرج بين الأم وابنتها: كوكو البالغة من العمر 23 عامًا، والتي لم تعش مع والدتها منذ أن كانت في الخامسة من عمرها ونادرًا ما تراها، الآن "لأول مرة في حياتها، تقابل إليزابيث ابنتها كوكو بشكل غير متوقع". المواجهة محرجة، فقد التقيا صادفة في إحدى شوارع المدينة، إن الطبيعة العرضية للقائهما تدل على نفور كل منهما من الآخرى. وقد بلغت ذروة التوتر بينهما في مشاركة إليزابيث ابنتها: لقد تم تشخيص إصابتها بسرطان عضال، وليس هناك الكثير مما يمكن فعله حيال ذلك؛ إنها تحتضر. تلقي الأم بخبرها السيئلابنتها وتهرب من المشهد، تاركةلها الوقت لتستوعب وضعها كأم تحتضر، تقرر الابنة بعد صراع نفسي ودون اخطار والدتها أن ما يجب فعله هو الانتقال للعيش معها، والعودة إلى منزل طفولتها. تعالج الرواية الافتقار إلى التواصل بين الأم وابنتها الذي هو عصب المشكلة، فالأم إليزابيث غير قادرة أو غير راغبة في التعبير عن مشاعرها بشكل جيد لابنتها وللآخرين أيضا وتميل فقط إلى مواكبة الأشياء، وترك كل شيء يعمل بنفسه، سواء كان للأفضل والأسوأ، لا فرق لديها. إنها ليست مبتهجة بوجود كوكو في المنزل وتعتبرها عنصرا دخيلا على حياتها؛ مهما كان حسن نية كوكو، ومن هنا نحن أمام أم تستشعر الاضطراب في النظام الحياتي الذي اعتادت عليه. وابنة أيضا لها مشاكلها الحياتية الخاصة مع العالم. لم تكن إليزابيث أماً رائعة، أغلقت على طفلتها الصغيرة غرفتها وتركتها لأجهزتها الخاصة مع ترتيب كل الأمور حولها حتى لا تتمكن من إيذاء نفسها، ورغم أن "كوكو" لا تتذكر التفاصيل الدقيقة لما جرى لها في تلك الفترة، إلا أنها تتذكر صدمتها من معاملة والدتها لها؛ ويتردد صداها في الوقت الحاضر. تعرضت كوكو أيضًا لحادث منزلي مذهل عندما كانت في الخامسة من عمرها، واستقر والداها المطلقان في ذلك الوقت على انتقالها للعيش مع والدها "ويلبرت" والمرأة التي تزوجها بعد ذلك "ميريام"، وافقت إليزابيث ببساطة على ذلك واكتفت بأن تقضي كوكو ليلة واحدة في الأسبوع في منزلها. وبمرور الوقت أصبح الاتصال بينهما ضئيلًا. الآن إليزابيث تحتضر، وعندما تنتقل كوكو للعيش معها من أجل الاعتناء بها، تبرز جوانب علاقتهما المضطربة ويتفاقم فشل التواصل بينهما مرة أخرى. بذلت إليزابيث قصارى جهدها للتوافق مع صورة الأم الحانية، لكنها تكافح للتعامل مع سلوك ابنتها غير المنتظم والحالات المزاجية غير المتوقعة لها. في حياة المرأتين الأم وابنتها هناك عدد من الشخصيات الفاعلة في أحداث الرواية، فهناك في حياة إليزابيث مارتن صاحب العمل الذي رأى فيها فتاة موهوبة، والذي يمكن الاعتماد عليه دائمًا، والذي يتولى جميع أعمالها. وهناك الزوج سابق ويلبرت وزوجته المتفهمة. وهناك هانز مصفف الشعر وهو الرجل الأكبر سناً الذي تربطه علاقة مع كوكو، والذي ابتعد في البداية عن أي مشاركة في دراما حياة كوكو الجديدة مع أمها "أنا آسف يا حبيبي، لكني لست مهتمًا بوالدتك"، ولكن في النهاية يغير رأيه بعد لقاء إليزابيث. علاقة كوكو وهانز رغم قوتها إلا أنها متجردة من العاطفة، تريد كوكو أن تستمر علاقتها به دون أن تكون في حالة حب معه، وهذا ينطبق أيضا على سلوكها تجاه والدتها، إنها تتصرف بتجرد لا انطلاقا من حب صدق أو تفهم لمشاعر الأم، إنما من الواجب، لذا فإن الجميع يخافون من اضطرابات مشاعرها، وحتى هي نفسها تخشى فقط ألا تشعر بأي شيء بعد الآن. مقتطف من الرواية لأول مرة في حياتها تلتقي إليزابيث بابنتها مصادفة وعلى غير توقع. تخرج من الصيدلية في شارع (أوفرتوم)، وتكاد تعبر الطريق إلى محطة الترام عندما ترى ابنتها تقود دراجتها ماضية على الجانب الآخر من الشارع. وتراها ابنتها كذلك. تتوقف إليزابيث عن المشي. وتتوقف ابنتها عن التبديل، لكنها لا تكبح الفرامل بعد. يفصلهما اتساع شارع أوفرتوم بأكمله: مساران للدراجات، وحارتان للسيارات، وخط ترام مزدوج. تدرك إليزابيث على الفور أنها يجب أن تخبر ابنتها بأنها تموت، وتبتسم كشخص على وشك أن يحكي نكتة. غالبا ما تجد صعوبة في الحديث مع ابنتها، لكن الآن لديها بالفعل شيء تقوله لها. بعد جزء من الثانية يخطر على بالها أنك لا يجب أن تنقل أخبارا كهذه بحماسة أكبر من اللازم، وربما ليس هنا أيضا. في تلك الأثناء، تعبر شارع أوفرتوم وتفكر في طبيبها؛ وكيف يظل يسألها: "هل تخبرين الناس؟" وكم سيكون لطيفا أن تتمكن من تقديم الإجابة الصحيحة في موعدها القادم. تعبر بين سيارتين. تفرمل ابنتها وتنزل عن دراجتها. تقبض إليزابيث على الكيس البلاستيكي من الصيدلية الذي يحوي لصقات المورفين وتركيبة السعال. الكيس دليل مرضها، وكأن كلماتها وحدها لن تكون كافية. والكيس أيضا عُذرها؛ لأنها لم تكن تريد بالفعل أن تتحدث عن الأمر، هنا، هكذا بشكل غير لائق في الشارع، لكن الكيس قد كشف سرها. أليس كذلك؟ نعم؟ والآن، على نحو مفاجئ هكذا، تعبر إليزابيث شارع أوفرتوم، وتنزلق خلف ترام؛ لأنه ليس لائقا، ابنتها على جانب من الشارع وهي على الجانب الآخر. ليس من اللائق أن تلتقي بابنتك مصادفة وعلى غير توقع. كانت الابنة فيما مضى موجودة طوال الوقت، وفيما بعد – عندما لم تكن موجودة – كانت إليزابيث هي التي تقوم بتوصيلها بالسيارة. ولاحقا كانت هناك ترتيبات للزيارة، وفي السنين الأخيرة لم تعد كثيرة على الإطلاق. على أي حال، بقيت أعياد الميلاد. كانت الأمور دائما لها هيئة محددة واعتادت هي على عدم التفكير في الابنة عندما لم تكن الابنة موجودة. كانت تتواجد في أوقات تم التجهيز لها مسبقا. لكنها الآن هناك على دراجتها، في وقت لم تخططا فيه للقاء وكان ذلك خطأً ولا بد من حله، وتبديله، واستيعابه، مازال أمامها خط ترام كي تعبره، بالضبط خلف تاكسي يطلق نفيره ويجعل معطفها يرتفع من أطرافه. تجذب ابنتها دراجتها صاعدة بها الرصيف. الحارة الأخيرة خالية. تلاحظ إليزابيث على الفور أن ابنتها قد زاد وزنها وتقول دون تفكير: "هل قصصت شعرك مرة أخرى؟" لأنها مرعوبة من أن تتمكن ابنتها من قراءة الفكرة الأخيرة عن وزنها. إليزابيث تحب أن تتكلم عن شعرهما. فلديهما نفس الحلاق. "لا.." تقول ابنتها. "لون مختلف إذن؟" "لا". "لكنك مازلت تذهبين إلى نفس الكوافير؟" "نعم." "وأنا أيضا." تقول إليزابيث. تومئ ابنتها برأسها. يبدأ رذاذ في السقوط. "إلى أين تذهبين؟" هذا سؤال فضولي أكثر من اللازم، فليكن هكذا: "ظننتك كنت تعيشين في الجانب الآخر من المدينة." "يجب على أن أنتقل قريبا، أعطاني المالك إنذارا." "أوه.." تقول إليزابيث. "لم أكن أعرف." "وكيف كان يمكن لك أن تعرفي؟" "أنا.. أنا لا أعرف." "لقد عرفت بالأمر للتو أنا نفسي." "لا، إذن لم يكن بإمكاني أن أعرف." يغدو المطر أثقل. "سنبتل." تقول إليزابيث. تذهب ابنتها على الفور عائدة لتركب دراجتها وتقول: "سنتصل ببعضنا، ماشي؟" "وحشي الصغير.." تقول إليزابيث. كان والدها دائما ما يناديها بهذا. ومازال يفعل. كانت تبدو مضحكة عندما يقولها. تحدق ابنتها فيها مندهشة. ثم تتحرك شفتاها. اذهبي، تقول، في صمت. ليس من المفترض بإليزابيث أن تسمع وهي تحترم هذا؛ معدتها تؤلمها، لكنها لم تسمعها. يرقد شعر ابنتها القصير مبططا ومبللا فوق جمجمتها. تفكر إليزابيث في المناشف، إنها تريد أن تجفف ابنتها، لكن ابنتها تتحول عنها، وإحدى قدميها على البدَّال بالفعل. هكذا تضطر إليزابيث لأن تقول: "لديّ بعض الأخبار.." لقد فعلتها. تستدير ابنتها عائدة إليها. "وما هي؟" "آسفة.." تقول. "سأسلك في هذا الطريق الخاطئ، إنه ليس شيئا لطيفا". "وما هو؟" "لكني لا أريدك أن تأخذي الأمر على نحو سيء." وترفع ببطء الكيس البلاستيكي من الصيدلية. تمسك بالكيس عاليا مستخدمة يديها كلتيهما، وشعار الصيدلية ظاهر على نحو واضح. "لعلك تتساءلين: لماذا لا تكون هي في العمل؟" تتجاهل ابنتها الكيس. "ماذا؟" "لقد كنت للتوّ في الصيدلية". "و..." "إنه الطبيب. لقد قال ذلك." وتترك الكيس يهبط. "ماذا قال الطبيب؟" "أني يجب أن أخبر الناس". "بماذا يا ماما؟" "أني قد أموت. لكننا لا نعرف متى، كما تعلمين. قد تكون شهورا." "تموتين؟" "من السرطان". "سرطان؟" "إنه مصطلح شامل يشير في الحقيقة إلى الكثير من الأمراض المختلفة. إنه يبدو فقط مفزعا إلى حد كبير." "ما الذي لديك إذن؟" "أوه، الأمر كله تقني قليلا". "هه؟" "بدأ في كليتيّ لكن.." "منذ متى؟" "لا بد أنه منذ سنوات". "لا. منذ متى عرفت؟". تفكر إليزابيث في الحلاق، أول شخص أخبرته. تذهب إليه كل شهرين وموعدها الجديد في الأسبوع التالي، وفي هذه الحالة لا بد أنه لأكثر من.. "منذ متى يا ماما؟" "سنغرق لو ظللنا واقفتين هنا هكذا". "منذ متى؟" "أنا أحاول أن أحسبها". "أيام؟ أسابيع؟" "أنا أعدّ." "شهور؟" "حسنا، ليس شهورا." "ياللمسيح." تبدو ابنتها غاضبة. "لم يكن ينبغي أن أخبرك، أليس كذلك؟" "لكن... هم يعالجونك؟" "ليس حاليا، لا". "هل سيعالجونك؟" "إذا كانوا يستطيعون أن يفكروا في شيء". "وهل يستطيعون؟" "ليس حاليا". ".. وإذن؟" "آسفة.." تقول إليزابيث. "لم يكن ينبغي أن أخبرك بهذه الطريقة. نحن سنغدو متشربتين بالماء تماما." الكيس الآن مختبئ خلف ظهرها. "إذن أنت.. قد.. لكن ليس حتما؟" "ليس من المحتمل أن تعيشي فترة طويلة بشيء مثل هذا". "ليس من المحتمل؟" "ربما لا". "ياللمسيح". "سنتصل ببعضنا البعض.دعيني أتصل. ماشي؟ سنتصل؟" وبعد ذلك تعبر إليزابيث شارع أوفرتوم عائدة بأسرع ما يمكنها. تنزلق وتسقط على أول خط للترام، لكنها تهب ناهضة من جديد. بالسرعة التي أرادت أن تصل بها إلى ابنتها، تلك هي نفس السرعة، لا بل أسرع، التي تريد بها أن تبتعد عنها. تدق عربات الترام أجراسها وتتذكر إليزابيث الطريقة التي دهنت بها ابنتها حجرتها. "أنا فقط أبدأ في الدهان عندما أشعر بالرغبة في ذلك.." كانت قد أوضحت"لا أرتدي ملابس قديمة، ولا ألفّ أي شيء؛ لأني لو فكرت في جميع التجهيزات، أتوقف عن الرغبة في القيام بالفعل. فقط أبدأ، وبعد ذلك تستغرق عملية تنظيف الفوضى وإزالة كل بقع الطلاء نفس الوقت بالضبط الذي تستغرقه عملية االطلاء نفسها." كان هذا بالضبط هو ما فعلته إليزابيث للتوّ. لقد بدأت للتوّ، في التوقيت الخطأ، في المكان الخطأ، بالملابس الخطأ. لقد قامت بالأمر كله دفعة واحدة والآن سيتوجب عليها أن تنظف الفوضى وتأمل أن تكون النتيجة أفضل مما كانت عليه قبل أن تبدأ المهمة. تسير إلى محطة الترام دون أن تنظر خلفها وتفكر في حلاقها؛ محادثاتها معه لا تتخذ أبدا مسارا خاطئا. الكلمات المتبادلة بينها وبين الحلاق ترن مثل عملات الفكة الصغيرة: ألحان قصيرة سريعة. "المشكلة أن لديّ..." "أكملي". "الألم في ظهري، تعرف..." "نعم، أنتِ قلتِ". "تبين أنه سرطان." "أنت تمزحين". "مليئة به". "أوه يا عزيزتي!" "رأيته بعيني الاثنتين. في فحوصات الأشعة". "والآن؟" "الآن هم يرون إذا ما كانوا يستطيعون أن يوقفوه." "وهل يستطيعون؟" "هم يرون". "هم يرون".

مشاركة :