لوحة قصصية لعلاقة قاسية بين أم وابنتها في 'سكر محروق'

  • 1/13/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تدور أحداث رواية "سكر محروق" للكاتبة الهندية الأصل آفني دوشي، في بيون بالهند، وتتبع قصة عصية ومختلة بين أم وأبنتها، الابنة أنتارا تعتني بأمها التي تعاني تدهور من الشيخوخة وفقدان ذاكرتها، تعتني بها ولا يزال الاستياء يسيطر عليها بسبب إهمال هذه الأم لها طفلة وفتاة، عانت أنتارا من نزوات والدتها المتهورة والمتمردة في آن واحد، التي هربت من مسكن الزوجية للانضمام لمقر للرهبان الهنود، حيث اعتنق أحد المعلمين الحب الحر والجنس الأكثر حرية. وتتحمل فترة من العمل كشحاذة "غالبا نكاية في والديها الثريين"، وتقضي سنوات وهي تطارد "فنانا" متشردا أشعث الهيئة، وفي ذيلها أنتارا طفلة صغيرة. والآن هي تنسى الأشياء، تخطئ في حساب أجر خادمتها وتترك الغاز مفتوحا طوال الليل، وابنتها البالغة تواجَه بمهمة العناية بامرأة لم تعتنِ بها قط. "سكر محروق" التي ترجمها عبدالرحيم يوسف وصدرت عن دار صفصافة، رواية ترسم لوحة فنية بارعة لعلاقة حب وعشق وخيانة، لوحة معقدة ومحفوفة بالمخاطر ومؤلمة عاطفيا بتفاصيلها الساخرة والضاحكة والمحزنة أيضا التي تتطاير بين ماضي وحاضر فتاة فنانة في مقتبل العمر وأم مارست كل أشكال التمرد في شبابها وتعاني الآن من الزهايمر. لقد تحولت أنتارا منذ مقتبل حياتها إلى الفن، وأعظم ما لديها هو سلسلة من الرسومات تبدأ من صور تشكل استعارة للذاكرة، حيث تعيد إنشاءها كل يوم في نسخ متشابه. لكن مع مرور الوقت، تنحرف الرسومات عن مصدرها وتتخذ شكلاً خاصًا بها. لا يؤثر عدم ثبات الذاكرة على تارا فقط في تدهورها العقلي الواضح، بل يؤثر على أنتارا نفسها، التي تتناقض كثيرًا مع ذكرياتها. ما الذي حدث بالفعل في الماضي؟ هل يشعر الآخرون بما تعتقد أنهم يشعرون به؟ قد يكون هذا الإدراك مذهلاً للقراء، لأن معرفة ما يُدرك قد لا يكون صحيحًا. بالنسبة إلى أنتارا الأمر شبه كارثي، خاصة بعد أن أنجبت ابنتها تارا. ما تقدمه دوشي ليس صراعًا بسيطًا بين الأم وابنتها. إنها رحلة متلصصة في الحياة البديلة والحماسة الدينية. إنه فراغ وجود الطبقة الوسطى والصداقات الروتينية. إنه زواج خالٍ من الألفة الحقيقية، كان نتاجه طفلة وأمومة لأسباب خاطئة. إنها المشاعر الإنسانية المؤلمة والهشة.. ومن كل هذه الأمور وأكثر من ذلك. هذه رواية متعددة الطبقات، وصفية، مؤلمة وقاسية في بعض الأحيان، الذكريات تتآكل، يتم تغييرها، تدميرها، العبث بها. إنها تضعنا وجهاً لوجه مع دوافعنا الداخلية المظلمة والصدمات العميقة. أنتارا على الرغم من كونها ـ طفلة وفتاة بالغة ـ ضحية من نواح كثيرة، فإنها تسيء إلى الآخرين، مما قد يجعل القارئ يكافح لفهمها. الرواية تحذير لما يمكن أن ينشأ عندما لا يتم اكتشاف الماضي، ولا يتم مشاركته، ولم يبدأ الشفاء. وسط شخصيات بخيلة بالحب والعاطفة وقادرة على الشعور بالاشمئزاز منذ فترة طويلة. يذكر أن دوشي ولدت في نيوجيرسي عام 1982، حصلت على بكالوريوس في تاريخ الفن من جامعة بارنارد في نيويورك وماجستير في تاريخ الفن من كلية لندن الجامعية. حصلت على جائزة تيبو جونز لجنوب آسيا عام 2013 وزمالة تشارلز بيك عام 2014. نشرت كتاباتها في مجلة جرانتا والصانداي تايمز. تعيش دوشي حاليا في دبي مع أسرتها. وتعد روايتها هذه "سكر محروق" هي الأولى وصدرت في الهند تحت عنوان "البنت ذات الرداء القطني الأبيض"، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2020. مقتطف من الرواية أكون كاذبة لو قلت إن بؤس أمي لم يمنحني سعادةً قَطّ. عانيت على يديها وأنا طفلة، وأي ألم تحملته هي بالتالي بدا لي نوعا من القصاص – إعادة توازن للكون، حيث يتعادل النظام العقلاني للسبب والنتيجة. لكن الآن، لا يمكنني معادلة الكفَّتين بيننا. والسبب بسيط: أمي تنسى، ولا شيء يمكنني فعله حيال ذلك. ليست هناك طريقة لجعلها تتذكر الأشياء التي قامت بفعلها في الماضي، لا طريقة هناك لإغراقها في الشعور بالذنب. اعتدت أن أستحضر أمثلة على قسوتها، عرَضا، ونحن نتناول الشاي، ومراقبة وجهها وهو يلتوي في تقطيبة. لكنها الآن لا تستطيع غالبا أن تتذكر ما أتحدث عنه؛ حيث تشرد عيناها بعيدا في بهجة أبدية. وأي شخص يشاهد هذا سيلمس يدي ويهمس: كفى الآن. إنها لا تتذكر، المسكينة. هذا التعاطف الذي تستثيره لدى الآخرين يوقظ بداخلي شيئا مريرا. شككت في شيء ما منذ عام، عندما بدأت تتجول في أرجاء البيت ليلا. كانت خادمتها، كاشتا، تتصل بي مذعورة. "أمك تبحث عن بطانات من المشمع.. تحسبا لأن تبللي فراشك." هكذا قالت كاشتا ذات مرة. رفعت الهاتف بعيدا عن أذني وبحثت عن نظارتي على منضدة السرير. إلى جواري كان زوجي مازال نائما وسدادتا أذنيه تتوهجان بالنيون في الظلام. قلت: "لا بد أنها تحلم.." بدت كاشتا غير مقتنعة: "لم أكن أعرف أنك اعتدت على أن تبللي فراشك." أنزلت الهاتف وظللت، لبقية الليلة، غير قادرة على النوم. حتى في جنونها، تمكنت أمي من إذلالي. ذات يوم دقت فتاة التنظيف جرس الباب ولم تعرف أمي من تكون. وكانت هناك حوادث أخرى – عندما نسيت كيف تسدد فاتورة الكهرباء وأخطأت وضع سيارتها في ساحة صف السيارات أسفل شقتها. كان هذا منذ ستة شهور. أحيانا أشعر أن بمقدوري رؤية النهاية؛ عندما لا تكون شيئا أكثر من نبتة متعفنة. عندما تنسى كيف تتكلم، كيف تتحكم في مثانتها، وفي النهاية تنسى كيف تتنفس. إن الانحدار الإنساني يتوقف قليلا ويتلعثم، لكنه لا يعود القهقرى. يشير ديليب، زوجي، إلى أن ذاكرتها ربما تحتاج إلى إنعاش مناسب. لذا أكتب قصصا من ماضي أمي على قصاصات صغيرة من الورق وأدسها في أركان شقتها. تجدها من وقت لآخر وتتصل بي ضاحكة: "لا يمكنني أن أصدق أن أي طفلة لي يمكن أن يكون خطها سيئا هكذا." في اليوم الذي نسيت فيه اسم الشارع الذي عاشت فيه طوال عقدين، اتصلت بي أمي لتقول إنها قد اشترت علبة أمواس وأنها لن تخشى من استخدامها لو تدهورت الأحوال أكثر من هذا. ثم بدأت في البكاء. عبر الهاتف كان بمقدوري سماع أبواق سيارات تنطلق كالثغاء، وأشخاص يتصايحون. أصوات شوارع مدينة بونيه . بدأت تسعل وأفلت منها حبل أفكارها. كان بمقدوري فعليا أن أشم أدخنة التوك-توك الذي كانت جالسة فيه، الدخان الأسود الذي كان يضخه، وكأني كنت واقفة إلى جوارها مباشرة. للحظة، أحسست بشعور سيء. لا بد أنه أسوأ أنواع العذاب – إدراك المرء لانهياره، كفَّارة أن تراقب الأشياء وهي تنفلت بعيدا. ومن ناحية أخرى، كنت أعرف أن هذه مجرد كذبة. لم تكن أمي لتنفق قط كل هذا. علبة أمواس، في الوقت الذي يكفي موس واحد فقط لأداء المهمة؟ كان لديها دائما ولع بإظهار المشاعر على الملأ. قررتُ أن أفضل طريقة للتعامل مع الموقف هي حل وسط من نوع ما: طلبت من أمي ألا تكون دراماتيكية، لكني دوَّنت الحادثة حتى أتمكن من البحث عن أي أمواس والتخلص منها في وقت لاحق. لقد دوَّنت الكثير من الأشياء عن أمي: الساعة التي تسقط فيها نائمة في الليل، عندما تنزلق نظارتها للقراءة من فوق قنطرة أنفها الدهنية، أو عدد رقائق بسكويت (مازورين) التي تأكلها على الإفطار – كنت أتتبع هذه التفاصيل. أعلم المسؤوليات التي جرى تجنبها، وأين جرى صقل سطح القصة ليبدو ناعما أملس. أحيانا عندما أزورها، تطلب مني الاتصال تليفونيا بأصدقاء ماتوا منذ زمن بعيد. كانت أمي امرأة بمقدورها حفظ وصفات قرأتها مرة واحدة فقط. وكان بمقدورها تذكر تنويعات من الشاي صُنعت في بيوت أشخاص آخرين. وعندما كانت تطبخ، كانت تمد يدها نحو الزجاجات وخلطات التوابل دون أن ترفع عينيها. كانت أمي تتذكر الأسلوب الذي كان يستخدمه الجيران من شعب مِيمون المسلمين لذبح الماعز أثناء عيد الأضحى في الشرفة أعلى شقة والديها القديمة، وهو ما كان يصيب مالك البيت الجايني  بذعر هائل،  وكيف أعطاها الخياط المسلم ذو الشعر الأجعد كالسلك ذات مرة طشتا صدئا لتجمع الدم فيه. وصفت لي المذاق المعدني، وكيف لعقت أصابعها الحمراء. قالت: "أول مرة أتذوق فيها شيئا غير نباتي..". كنا جالستين بمحاذاة الماء في مدينة آلاندي. وكان الحجاج يغتسلون والمتسربلون بالحداد يغمرون الرماد. وكان النهر القاتم يتدفق على نحو غير محسوس، بلون الغرغرينا. وكانت أمي قد أرادت الابتعاد عن البيت، عن جدتي، عن الحديث حول أبي. كان وقتا مستقطعا، بعد أن تركنا الأشرم  وقبل أن يرسلوني بعيدا إلى مدرسة داخلية. للحظة كانت هناك هدنة بيني وبين أمي، عندما كان مازال بمقدوري أن أصدق أن الأسوأ قد مر وخلفناه وراءنا. لم تخبرني إلى أين كنا ذاهبتين في الظلام، ولم أستطع قراءة اللافتة الورقية الملصقة على مقدمة الحافلة التي ركبناها. قرقرت معدتي، ممتلئة بالخوف من اختفائنا من جديد في نزوة أخرى من نزوات أمي، لكننا بقينا قرب النهر الذي أنزلتنا الحافلة عنده، وعندما ارتفعت الشمس، صنع الضوء أقواس قزح في برك البنزين التي تجمعت على سطح الماء. وبمجرد أن صار النهار حارا، عدنا للبيت. كان جدي وجدتي في حالة غضب محموم، لكن أمي قالت إننا لم نترك أراضي المجمع السكني الذي كنا نعيش فيه. صدقاها لأنهما كانا يريدان ذلك، رغم أن قصتها لم تكن محتملة الحدوث بما أن المجمع السكني الذي نهضت فيه بنايتهم لم يكن كبيرا بما يكفي لأن يتوه المرء فيه. كانت أمي تبتسم وهي تتحدث – كان بمقدورها الكذب بسهولة. أعجبني كونها كاذبة بهذه الطريقة. ولفترة أردت أن أضاهي هذه الخصلة؛ فقد بدت أشبه بالسمة النافعة الوحيدة التي تمتلكها. سأل جداي الغفير لكنه لم يتمكن من تأكيد صحة أي شيء – فقد كان غالبا ينام أثناء أدائه لعمله. وهكذا علقنا في ذلك المأزق لفترة قصيرة، كما سيحدث لنا كثيرا من جديد، وكل واحد مستعد بأكاذيبه، على يقين أن مصلحته الشخصية ستنتصر. كررت قصة أمي عندما سُئلت مرة أخرى لاحقا. لم أكن قد تعلمت بعد ماهية الانشقاق. كنت مازلت منصاعة ككلب. أحيانا أشير إلى أمي بصيغة الماضي رغم أنها مازالت حية. كان هذا ليؤلمها لو تمكنت من تذكره ما يكفي من الوقت. حاليا ديليب هو الشخص المفضل لديها. إنه زوج ابنة نموذجي. عندما يلتقيان، ليس ثمة توقعات تغيم الجو حولهما. هو لا يتذكرها كما كانت – بل يقبلها كما هي، ويكون سعيدا بإعادة تقديم نفسه لو نسيت اسمه.

مشاركة :